كتاب تاريخ الغيبة الكبرى لسماحة آية الله الشهيد محمد صادق الصدر (قد) الى ص(74)

مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)
كتاب تاريخ الغيبة الكبرى لسماحة آية الله الشهيد محمد صادق الصدر (قد)

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة على أشرف الخلق محمد وآله الطاهرين
بحث تمهيدي :
في إنقسام الغيبة
- 1 -
لا شك أن للمهدي (ع) غيبتين اثنتين . وهذا من واضحات الفكر الإمامي ، بل من قطعياته التي لا يمكن أن يرقى إليها الشك . ووافقهم عليه بعض علماء العامة . وقد وردت في ذلك الروايات في مصادر الفريقين .
روى السيد البرزنجي(1) عن أبي عبدالله الحسين بن علي عليهما السلام أنه قال : لصاحب هذا الأمر – يعني المهدي عليه السلام – غيبتان . إحداهما تطول حتى يقول بعضهم مات وبعضهم ذهب . ولا يطلع على موضعه أحد من ولي ولا غيره إلا المولى الذي يلي أمره .
وأخرج النعماني(2) بإسناده عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبدالله جعفر بن محمد (ع) يقول : للقائم غيبتان إحداهما طويلة والأخرى قصيرة . فالأولى يعلم بمكانه فيها خاصة من شيعته . والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه في دينه .
وأخرج(3) عن إبراهيم بن عمر الكناسي قال سمعت أبا جعفر الباقر (ع) يقول : إن لصاحب هذا الأمر غيبتين .
(1) الإشاعة لإشراط الساعة ، ص 93 . (2) الغيبة ، ص 89 . (3) المصدر ص 89 .

صفحة ( 6)
وأخرج(1) عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبدالله (ع) كان أبو جعفر (ع) يقول ، لقائم آل محمد غيبتان إحداهما أطول من الأخرى ، فقال : نعم ... الحديث . وأخرجه الطبرسي في أعلام الورى(2) أيضاً ...
وأخرج النعماني أيضاً(3) عن محمد بن مسلم الثقفي عن الباقر أبي جعفر (ع) أنه سمعه يقول : إن للقائم غيبتين . يقال في إحداهما : هلك ، ولا يدري في أي واد سلك .
وأخرج أيضاً عن المفضل بن عمر قال سمعت أبا عبدالله (ع) يقول : إن لصاحب هذا الأمر غيبتين ، في إحداهما يرجع إلى أهله ، والأخرى يقال : هلك في أي واد سلك .
وأخرج الشيخ(4) عن حازم بن حبيب عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : يا حازم إن لصاحب هذا الأمر غيبتين ، يظهر في الثانية . إن جاءك من يقول : أنه نفض يده من تراب قبره ، فلا تصدقه .
إلى غير ذلك من الأخبار ، وهي كثيرة وكافية للإثبات التاريخي .
- 2 -
ولهم هذه الأخبار أطروحتان رئيسيتان :
الأطروحة الأولى :
وهي الموافقة للفهم غير الإمامي للمهدي (ع) القائل : بأن المهدي رجل يولد في زمانه فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً .
وهي : إن الغيبتين منفصلتان يتخللهما ويفصل بينهما ظهور للناس . ويكون الظهور بعد الغيبة الثانية هو يوم الثورة الكبرى . وتكون مدة كلتا الغيبتين محددة بسنين قليلة ... توجبهما مصالح وقتية محددة ترجع إلى شخص المهدي (ع) أو إلى مصلحة انتصاره بعد الظهور .
(1) المصدر ، ص 90 . (2) انظر ص 416 . (3) الغيبة ، ص 90 وكذلك الذي يليه . (4) انظر الغيبة ، ص 261 .

صفحة ( 7)
وهذه الأطروحة هي المتعينة لا خيار في تعديها ، طبقاً لهذا الفهم غير الإمامي ... لوضوح عدم إمكان وجود الغيبة الطويلة ، مع العمر المحدد من السنين .
وهذه الأطروحة هي التي فهمها البرزنجي(1) من هذه الأخبار حين قال : وهاتان الغيبتان – والله أعلم – ما مر آنفاً أنه يختفي بحبال مكة ولا يطلع عليه أحد . قال : ويؤيده ما روي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر ، أنه قال : يكون لصاحب هذا الأمر غيبة في بعض هذه الشعاب ، وأومأ بيده إلى ذي طوى . أقول : ولم يذكر البرزنجي الغيبة الثانية .
الأطروحة الثانية :
وهي الموافقة للفهم الإمامي للمهدي (ع) القائل : بأن المهدي حي منذ ولادته في القرن الثالث الهجري إلى حين ظهوره في اليوم الموعود .
وهي الأطروحة التي فهمها العلماء الإماميون بشكل عام ، ونص قدماؤهم على مضمونها بشكل خاص . وهي من ضروريات مذهبهم .
قال النعماني(2) هذه الأحاديث التي يذكرونها : إن للقائم عليه السلام غيبتين ، أحاديث قد صحت عندنا بحمد الله . وأوضح الله قول الأئمة عليه السلام وأظهر برهان صدقهم فيها .
فأما الغيبة الأولى ، فهي التي كانت السفراء فيها بين الإمام وبين الخلق قياماً منصوبين ظاهرين موجودي الأشخاص ... وهي الغيبة القصيرة التي انقضت أيامها وتصرمت مدتها . والغيبة الثانية هي التي ارتفع فيها أشخاص السفراء والوسائط ، للأمر الذي يريده الله هو التدبير الذي يمضيه في الخلق بوقوع التمحيص والامتحان ... وهذا زمان ذلك قد حضر ... الخ كلامه .
(1) الإشاعة ، ص 93 . (2) الغيبة ، ص 90 / 91 .

صفحة ( 8)
وقال المفيد في الإرشاد(1) : وله قبل قيامه غيبتان : إحداهما أطول من الأخرى ، كما جاءت بذلك الأخبار. فأما القصرى منهما ، منذ وقت مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته وعدم السفراء بالوفاة ، أما الطولى فهي بعد الأولى ، وفي آخرها يقوم بالسيف .
وقال الطبرسي(2) : فانظر كيف حصلت الغيبتان لصاحب الأمر على حسب ما تضمنت الأخبار السابقة . أما غيبته الصغرى منهما فهي التي كان فيها سفراؤه موجودين وأبوابه معروفين ، لا تختلف الإمامية القائلون بإمامة الحسن بن عليه (ع) فيهم ... الخ كلامه .
وقال ابن الصباغ(3) – وهو مالكي المذهب – : وله قبل قيامه غيبتان : إحداهما أطول من الأخرى . فأما الأولى فهي القصرى ، فمنذ ولادته إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته . وأما الثانية ، وهي الطولى ، فهي التي بعد الأولى . في آخرها يقوم بالسيف . قال الله تعالى : لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . إلى غير ذلك من الأقوال التي يطول المقام بنقلها .
وقد سبق أن عرفنا في التاريخ السابق ، وسنزيده في هذا التاريخ توضيحاً ... مقدار الفرق بين الغيبتين الكبرى والصغرى . وتتلخص الفروق فيما يلي :
أولاً : قصر مدة الغيبة الصغرى ، إذ كانت حوالي السبعين عاماً . بخلاف الغيبة الكبرى ، فإنها غير معروفة الأمد ، باعتبار جهلنا بموعد ظهور المهدي (ع) .
ثانيا : اقتران الغيبة الصغرى بالسفارة الخاصة ، القائمة بين المهدي (ع) وقواعده الشعبية ، وانقطاع ذلك في الغيبة الكبرى .
ثالثاً : انتهاء أمد الغيبة الصغرى بوفاة السفير الرابع على بن محمد السمري . وأما الكبرى ، فلا زالت سارية المفعول ، وتنتهي بيوم الظهور الموعود .
(1) انظر ، ص 326 . (2) اعلام الورى ، ص 416 . (3) الفصول المهمة ، ص 309 .

صفحة ( 9)
رابعاً : إن المشاهدين للمهدي (ع) خلال غيبته الصغرى ، أكثر بنسبة مهمة عنهم في غيبته الكبرى .
ويمكن أن يكون الفرق الأول ، هو سبب تسمية الغيبتين بالصغرى والكبرى ... حيث تكون الأولى قصيرة والأخرى طويلة . كما يمكن أن يكون الفرق الأخير هو سبب التسمية ، ويكون المقصود هو قلة الاحتجاب في الصغرى وكثرته في الكبرى .
وعلى ذلك فالغيبتان متصلتان لا يفصل بينهما ظهور .
وقد سبق في التاريخ السابق(1) ، أن عرفنا الحكمة الأساسية من إيجاد الغيبة الصغرى ، وهو التمهيد الذهني لوجود الغيبة الكبرى في الناس . إذ لو بدأ المهدي (ع) بالغيبة المطلقة فجأة ، وبدون إنذار وإرهاص ، لما أمكنا إثبات وجوده في التاريخ . فتنقطع حجة الله على عباده .
وستعرف في هذا التاريخ تفصيلاً وجه الحكمة من وجود الغيبة الكبرى ، سواء ما يعود إلى المهدي نفسه أو إلى المخلصين من أصحابه أم إلى البشرية كلها من حيث ما يعود عليها من الخير في اليوم الموعود .

صفحة ( 10)
أخرج النعماني(1) عن أبي عبدالله (ع) في حديث ، قال فيه : والله ليغيبن سبتاً(2) من الدهر ، وليخملن حتى يقال : مات أو هلك ، بأي وادي سلك . ولتفيضن عليه أعين المؤمنين . ليكفأن كتكفئ السفينة في أمواج البحر ، حتى لا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه ، وكتب الإيمان في قلبه وأيده بروح منه ... الخ الحديث. وذكر له عدة أسانيد .
وهذا بالضبط هو الذي سيحدث في عصر الغيبة الكبرى . على ماسنسمع فيه هذا التاريخ .
وأخرج أيضاً(3) عن موسى بن جعفر عليه السلام ، أنه قال : إذا فقد الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم ، لا يزيلنكم عنها . فأنه لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة ، حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به . إنما هي محنة من الله يمتحن الله بها خلقه ... الحديث .
وأخرج(4) عن أبي الجارود عن أبي جعفر (ع) قال : قال لي : يا أبا الجارود ، إذا دار الفلك ، وقالوا : مات أو هلك وبأي واد سلك ، وقال الطالب له : أنى يكون ذلك ، وقد بليت عظامه . فعتد ذلك ، فارتجوه . الحديث .
وعن(5) أبي عبدالله : إن القائم إذا قام يقول الناس : أنى ذلك وقد بليت عظامه .
وعن(6) أبي عبدالله أنه قال : إذا فقد الناس الإمام ، مكثوا سبتاً لا يدرون أياً من أي . ثم يظهر الله عز وجل لهم صاحبهم .
وعنه (ع)(7) قال : كيف أنتم إذا صرتم في حال لا يكون فيها إمام هدى ولا علماً يرى ... الحديث .
(1) الغيبة ، ص 76 . (2) السبت يأتي لغة بمعنى الدهر والبرهة من الزمن . (3) الغيبة ، ص 78 .
(4) المصدر ، ص 78 . (5) المصدر والصفحة . (6) المصدر ، ص 81 . (7) المصدر والصفحة .

صفحة ( 11)
وأخرج الصدوق(1) هم تلجسيم بم هلي عليه السلام في حديث : له غيبة يرتد فيها أقوام ويثبت على الدين فيها آخرون . فيؤذن ويقال لهم : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين . أما أن الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بين يدي رسول الله وآله الطاهرين الأخيار .
وعن علي بن الحسين عليه السلام أنه قال : ... ثم تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر ... أن أهل زمان غيبته ، القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره ، أفضل من أهل كل زمان ، لأن الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة . وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف ... الحديث .
- 4 -
فهذه هي الأخبار التي تدل على أهمية الغيبة في المدى البعيد . وأما الأخبار التي تدل عليها بشكل مباشر ، فكثيرة :
أما الغيبة الصغرى ، فيدل عليها كل أخبار السفراء الأربعة والوكلاء والمعارضين المنحرفين والتوقيعات الصادرة عن المهدي (ع) وكل من رآه منذ ولادته إلى نهاية ذلك العصر ... إلى غير ذلك من الأخبار التي سمعناها تفصيلاً في التاريخ السابق .
وأما الغيبة الكبرى ، فيدل عليها ما سنذكره من أخبار المشاهدة وأخبار التمحيص وأخبار الانتظار وفضل المنتظرين . وأخبار علامات الظهور ، وما دل على فساد الزمان وانحراف أهله ، وغير ذلك ، فأنها جميعاً مرتبطة ارتباطاً عضوياً بعصر الغيبة الكبرى على ما سنعرف .
(1) اكمال الدين المخطوط ، وكذلك الذي بعده .

صفحة ( 12)
- 5 -
وبمجموع هذه الأدلة ، نستطيع أن ننفي الأطروحة الأولى التي ذكرناها في الفقرة الثانية من هذا البحث .
وذلك لوضوح أنها لا تنسجم مع شيء من هذه الأدلة :
أما أخبار الغيبة الصغرى ، فواضح ، باعتبار أن الأطروحة الأولى لا تدعي وجود السفراء والوكلاء والمعارضين والتوقيعات خلال الغيبة الأولى . بل لم يثبت عن هذه الأطورحة أنها تدعي أن الغيبة الأولى أصغر من الثانية ، في المدة أو في درجة الاختفاء .
وأما أخبار الغيبة الكبرى ، فلما سنعرفه من أن أي شيء من التمحيص والانتظار وعلامات الظهور ، لا يمكن أن يحدث إلا في دهر طويل . وكذلك لا معنى لاخبار المشاهدة وهي متواترة مضموناً ، مع الاختفاء القليل الذي يمتد مثلاً لخمس سنوات أو عشر .
مضافاً إلى أن ما تقول به الأطروحة الأولى من ظهور المهدي بين الغيبتين ... مما لا يفهم وجهه . إذ يبقى التساؤل عن أنه لماذا يظهر إذا لم يكن عازماً على أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً .
فإن قال قائل : أنه يظهر بعد الغيبة الأولى ليقوم بمهمته الكبرى ، لأنه يتخيل وجود فرص النجاح ، وحيث انها غير موجودة في الواقع ، فإنه يفشل في مهمته ، فيختفي مرة ثانية ليظهر بعد ذلك فيقوم بمهمته خير قيام .
نقول : إن عهدة هذا القول على مدعيه ، إذ يتصور المهدي (ع) قاصر التدبير والتفكير من النواحي الاجتماعية والسياسية والعسكرية ، بحيث يمكن أن يسيطر عليه خيال كاذب . أما المهدي الذي ذخره الله تعالى ليومه الموعود، وخطط لنجاح مهمته تخطيطاً مضبوطاً عميقاً ، على ما سنسمع ، فهو قائد عالمي ، من المستحيل أن يقع في مثل هذه الأوهام .

صفحة ( 13)
- 6 -
هذا ، وقد نرى أئمة الهدى عليهم السلام ، يخاطبون الناس على قدر عقولهم ، كما هو المفروض في كل كلام بليغ. فهم يأخذون المستوى العقلي والثقافي والإيماني لمجتمعهم بنظر الاعتبار حين يتحدثون عن المهدي (ع) . فإذا كان المخاطب والسامع ذا مستوى عال ، كان الجواب عميقاً ومفصلاً ، وإذا كان ذا مستوى واطئ ، كان الجواب مختصراً وناظراً إلى زاوية معينة متجنباً الخوض الكامل في الجواب ... طبقاً لهذا القانون .
أخرج النعماني(1) والصدوق(2) عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال – في كلام له – : يا بني عقولكم تضعف عن هذا وأحلامكم تضيق عن حمله . ولكن أن تعيشوا فسوف تدركوه .
وطبقاً لهذا الاتجاه نسمع الأخبار التالية :
أخرج النعماني(3) عن أبي عبدالله (ع) أنه قال : لو قد قام القائم لأنكره الناس ، لأنه يرجع إليهم شاباً موفقاً ... وإن من أعظم البلية أن يخرج إليهم شاباً وهم يحسبونه شيخاً كبيراً .
وهذا الخبر صادق تماماً ، لأن المهدي (ع) سوف يظهر شاباً . كما أن من البلاء العظيم والامتحان العميق أن يخرج شاباً ، إذا كانوا يفكرون كونه شيخاً كبيراً . ولكنه لم يقل أنهم يفكرون فعلاً بذلك ، ومن هنا يكون الاختصار في العطاء .
إن هذا الخبر يوحي بوضوح أن مدة الغيبة سوف لن تتجاوز مدة العمر الطبيعي الذي يكون به الفرد شيخاً، غير أن الله تعالى سوف يحفظ للمهدي شبابه خلال هذه المدة . وهذا العطاء منسجم مع تلك الذهنية التي لا يمكن أن تستوعب بحال ، العمر الطويل الذي يمتد مئات السنين .
ومن الواضج أن الناس سوف لن يحسبوه شيخاً ،إذ مع تمادي العمر مئات السنين ، ينتفي من الذهن مفهوم الشيخوخة تماماً ، ويبقى تطور شكل الإنسان بالقدرة الإلهية وحدها ،تلك القدرة التي حفظته هذا المقدار من السنين.
(1) الغيبة ، ص 78 . (2) انظر الاكمال المخطوط . (3) الغيبة ، ص 99 .

صفحة ( 14)

ونحو ذلك الخبر السابق عن الإمام موسى بن جعفر(ع) الذي يقول فيه : ولكن أن تعيشوا فسوف تدركوه . فأنه من المؤكد أنهم لو عاشوا لأدركوه ، ولو استلزم عيشهم أن يبقوا في الحياة مئات السنين . ولكنه لم يقل أنهم سوف يعيشون فعلاً إلى عصر الظهور .
غير أن الانطباع الأولي لأهل ذلك العصر ، عن هذا الحديث ، هو أن الظهور يمكن أن يحدث خلال عمر طبيعي للإنسان ... أو أنه يحدث كذلك فعلاً . وأخرج الصدوق(1) عن زرارة عن الإمام الباقر (ع) أنه قال : ان للقائم غيبة قبل ظهوره . قلت : ولم . قال: يخاف . وأومأ إلى بطنه . قال زرارة : يعني القبل .
وعن أبي عبدالله الصادق (ع) قال : للقائم غيبة قبل قيامه ، قلت : ولم . قال : يخاف على نفسه الذبح .
وهذا صحيح . إلا أنه لم يحدد مقدار الغيبة ولا انقسامها ، تبعاً لمستوى السامعين . وأخرج النعماني(2) عن أبي جعفر بن محمد بن علي عليهما السلام أنه قال : يكون لصاحب هذا الأمر غيبة في بعض هذه الشاعب . وأومأ بيده إلى ذي طوى ... الحديث . وقد احتج البرزنجي(3) بهذا الحديث لأجل استبعاد الفهم الأمامي للمهدي . ولا بد أن يكون مراده أن الغيبة بين الشعاب لا تكون إلا خلال العمر الطبيعي للإنسان .
وهذا المضمون وإن ناقشناه في التاريخ السابق(4) ... إلا أنه يمكن القول بصحته ، بعد التنزل – جدلاً – عن تلك المناقشة . ولا يكون الخبر منافياً مع الفهم الإمامي بحال . لوضوح أنه يمكن أن نتصور المهدي (ع) ساكناً في الشعاب والبراري والقفار طيلة غيبته مهما طالت . ولا يتعين كونها غيبة ذات مدة قليلة ، كما هو معلوم .
(1) انظر الاكمال المخطوط ، وكذلك الذي يليه . (2) الغيبة ، ص 95 . (3) الإشاعة ، ص 93 .
(4) تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 546 .

صفحة ( 15)
قد سمعنا في التاريخ السابق(1) ما روي عن الإمام المهدي (ع) نفسه ، فيما قاله لعلي بن المازيار : يا ابن المازيار ، أبي أو محمد عهد إليّ أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم . وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا أوعرها ، ومن البلاد إلا عفرها . إذن فمن الممكن أن يكون المراد من كلا الخبرين ، مضمون واحد . غير أن هذا المضمون لم يثبت تاريخياً، كما سمعنا في التاريخ السابق ، وسيتضح بجلاء في القسم الأول من هذا التاريخ .
- 7 -
بقيت علينا بعض الاستفهامات التي قد تثار حول بعض ما سبق .
الاستفهام الأول :
إن بعض الأخبار ، التي رويناها في الفقرة الأولى من هذا البحث ، دلت على أن الغيبة الطويلة ، تحدث قبل القصيرة. كقوله في بعضها : للقائم غيبتان إحداهما طويلة والأخرى قصيرة . وقوله في الخبر الآخر : إحداهما أطول من الأخرى . وهذا ما دل على ما ذكرناه .
وجوابه : إن المراد من ذلك ، الإخبار عن وجود الغيبتين . وأما تقديم الغيبة الطويلة بالذكر ، فباعتبار أهميتها لا باعتبار سبقها الزماني على الغيبة الأخرى . وقد قال في نفس الخبر : فالأولى يعلم بمكانه الخاصة من شيعته ، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه في دينه . وهو نص بتقدم الغيبة الصغرى التي تتصف بقلة الاحتجاب على صاحبتها .
(1) المصدر والصفحة .

صفحة ( 16)
الاستفهام الثاني :
قوله في بعض تلك الأخبار : يظهر في الثانية . فأنه دال على أنه (ع) يظهر خلال الغيبة الثانية . فكيف يصح ذلك ؟
وجوابه : أن هذه الفكرة التي فهمها السائل تتضمن تهافتاً في التصور ، لتنافي الغيبة مع الظهور ، فلا معنى لأن يظهر وهو غائب . وإنما المراد أنه يظهر بعد انتهاء الغيبة الثانية . كما هو معلوم .
الاستفهام الثالث :
قوله في بعض تلك الأخبار : إن لصاحب هذا الأمر غيبتين في إحداهما يرجع إلى أهله . وهو دال على أن المهدي (ع) خلال الغيبة الصغرى يرجع إلى أهله . فما معنى ذلك ؟
وجوابه : أننا سمعنا في التاريخ السابق(1) أن الإمام المهدي (ع) كان ساكناً في دار أبيه في سامراء ردحاً من عصر غيبته الصغرى . وهو دار أهله بطبيعة الحال ، كما نطق هذا الخبر . ويحتمل أن يكون المراد إعطاء فكرة قلة الاختفاء خلال الغيبة الصغرى ، مشبهاً بمن يخرج من أهله ويعود. ومن هنا يقول في الخبر – بالنسبة إلى الغيبة الكبرى – : والأخرى يقال : هلك في أي واد سلك .
الاستفهام الرابع :
سمعنا المفيد فيما سبق يقول : فأما القصرى منهما ، منذ وقت مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته. وكذلك قال ابن الصباغ .
على حين سمعنا من التاريخ السابق(2) أن أول الغيبة الصغرى هو يوم وفاة الإمام العسكري (ع) والد المهدي (ع) . وليس أولها ولادة المهدي نفسه ... وإن كان مختفياً فعلاً خلال حياة أبيه . فأي الوجهين هو الصحيح ؟
وجوابه : إن الوجه الذي اخترناه في التاريخ السابق هو الصحيح ، وهو بدء الغيبة الصغرى ، بوفاة الإمام العسكري (ع) ، وقد سبق أن برهنا عليه هناك .
(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 543 . (2) المصدر السابق ، ص 4 .

صفحة ( 17)
- 8 -
وبكل ذلك ، يتبرهن انقسام الغيبة إلى صغرى وكبرى ، بالمفهوم الإمامي .
وإذا كان هذا من صفات المهدي (ع) ولم ينسجم إلا مع المفهوم الإمامي ، يتعين الأخذ بهاذا المفهوم بالخصوص .
وطبقاً لذلك ، كتبنا فيما سبق تاريخ الغيبة الصغرى أولاً ، ونكتب الآن تاريخ الغيبة الكبرى ، وهو هذا الكتاب الذي بين يديك .

صفحة ( 18)
- 3 -
وبالمقدار الذي تكتسبه الغيبة الكبرى من أهمية وصعوبة وعمق في المدى البعيد ... يكون التركيز عليها في الأخبار. فبينما يكون التركيز على الغيبة الصغرى قليلاً . كالحديث الذي أخرجه الصدوق عن أبي عبدالله الصادق (ع) أنه قال : – في المهدي (ع) – يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته . وقد عرفنا في التاريخ السابق أن حرمة التسمية خاصة بعصر الغيبة الصغرى .
... نجد أن التركيز على الغيبة شديد في الأخبار .
(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 630 وغيرها .
مقـدمـة
الغيبة الكبرى هي الزمان الذي يبدأ بانتهاء الغيبة الصغرى ، بالإعلان الذي أعلنه الإمام المهدي عليه السلام ، عام 329 للهجرة ، بانتهاء السفارة وبدء الغيبة التامة وأنه لا ظهور إلا بإذن الله عز وجل(1) .
وهو الذي ينتهي بيوم الظهور الموعود الذي يبزغ فيه نور الإمام المهدي عليه السلام ، وتسعد البشرية بلقائه ليخرجها من الظلمات إلى النور ، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .
ومعه نكون الآن معاصرين لهذه الفترة التي نؤرخها ،وسبقى الناس معاصرين ، لها ، حتى يأذن الله تعالى بالفرج.
والإسلام والمسلمين يمرون في هذه الفترة بأصعب الظروف التي عاشوها ، بل التي عاشها أهل سائر الأديان السماوية ، بشكل عام . باعتبار ما تتصف به من خصائص ومميزات يجعلها من أحرج الأحوال في منطق الإسلام بالنسبة إلى ما سبقها وما يلحقها من الدهور .
الخصيصة الأولى :
وهي الرئيسية التي تعطي هذه الفترة شكلها المعتاد . وهي : أن المسلمين منقطعون بالكلية عن قائدهم وموجههم وإمامهم ، لا يجدون إلى رؤيته والتعرف عليه سبيلاً ، ولا إلى الاستفادة من أعماله وأقواله طريقاً . ولا يجدون له وكيلاً أو سفيراً خاصاً ، ولا يسمعون عنه بياناً ولا يرون له توقيعاً ، كما كان عليه الحال خلال الغيبة الصغرى . إذ في هذه الفترة التي نؤرخها يكون كل ذلك قد انقطع بشكل عام .
(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 415 وما بعدها وص 366 وما بعدها .

صفحة ( 19)
وبذلك تتميز هذه الفترة عن سائر الفترات في عمر الإسلام والمسلمين . فهي تختلف عن زمان وجود النبي (ص) وزمان الأئمة الاثني عشر عليهم السلام زمان ظهور المهدي عليه السلام ، بوجود القائد والموجِّه خلال تلك الفترة دون هذه الفترة . وتختلف عن زمان الغيبة الصغرى بوجود السفراء للمهدي (ع) وصدور البيانات والتوقيعات عنه، خلال تلك الفترة ، دون هذه الفترة التي نؤرخها .
الخصيصة الثانية :
سيادة الظلم والجور في الأرض ، بمعنى انحسار الإسلام بنظامه العادل عن المجتمعات البشرية , وما تعانيه البشرية – نتيجة لذلك – من أنحاء التعسف والانحراف والظلم والحروب .
وبذلك تتميز هذه الفترة عن زمان سيادة النظام الإسلامي الكامل ، وهو ما كان في زمان وجود النبي (ص) وإقامته لدولة الحق ، وما سيكون عند ظهور الإمام المهدي (ع) وإقامته لدولة الحق أيضاً .
وتشترك فترة الغيبة الكبرى ، بهذه الخصيصة ، مع كل أزمنة انحسار الإسلام – ولو انحساراً جزئياً – عن واقع الحياة . كأزمنة الخلفاء الأمويين والعباسيين . وإن كانت ظروفنا المتأخرة أشد وأقسى مما قبلها من حيث سيادة المبادئ المادية وقسوة الظلم والتعسف ، وتهديد البشرية بالفناء بالحرب العالمية الثالثة .
الخصيصة الثالثة تأكد الامتحان الإلهي ووضوحه :
فإن كل فرد – على الإطلاق – يواجه في هذه الفترة مزالق ثلاثة ، تشكل خطراً على دينه وعلى دنياه ، وبمقدار ما يبذله من تضحية وما يملكه من قوة في الإرادة ، فأنه يستطيع أن يضمن سعادته وحسن مستقبله ونجاحه في الامتحان الإلهي .

صفحة ( 20)
المزلق الأول :
ما يواجهه الإنسان من شهوات ونوازع ذاتية طبيعية ، تتطلب منه الإشباع بإلحاح ، ولا يسكن صوتها إلا بالإشباع التام ، وهي تتطلبه من أي طريق كان ، لا تعين لصاحبها الطريق المشروع خاصة . بل يمكن أن تطلق لصاحبها العنان فلا يبصر ما بين يديه من قوانين وتقاليد وأديان وحدود .
وهذا المزلق غير خاص بعصر الغيبة الكبرى ، ولكنه فيها أكد وأشد تأثيراً باعتبار زيادة الإغراء وتلبيس الانحراف باللبوس المنطقي الزائف .
المزلق الثاني :
مواجهة الإنسان لضروب الاضطهاد والضغط والصعوبات التي يواجهها في طريق الحق والإيمان . مما يحتاج في مكافحته إلى قوة في الإرادة والعزم على التضحية .
وهذا المزلق يواجهه الفرد في زمن انحسار الإسلام عن واقع الحياة . بما في ذلك زمان الغبية الكبرى .
المزلق الثالث :
مواجهة الإنسان لضروب التشكيك في وجود الإمام القائد المهدي عليه السلام ، كلما طال الزمان وابتعد شخص الإمام عن واقع الحياة ، وطغت على الفكر الإنساني التيارات المادية التي تستبعد عن حسابها عالم الروح ، وكل ما هو غير محسوس ولا منظور .
وهذا المزلق ، يواجهه الفرد في زمان غيبة الإمام عليه السلام . وخاصة في غيبته الكبرى التي ينعدم فيها السفراء . وبالأخص بعد النهضة الأوروبية المادية وبدء عصر الاستعمار وطغيان التيار المادي العالمي الجارف .
وبمقدار ما يستطيع الفرد من تحصيل المناعة ضد هذه التيارات ، والصمود الفكري أمامها ، والتركيز على مفاهيم الإسلام وبراهينه ، فأنه يستطيع أن يضمن سعادته عند الله عز وجل في الدنيا والآخرة .
وكل هذه المزالق الثلاثة ، تجتمع بإلحاح وتأكيد ، في عصر الغيبة الكبرى بشكل واضح وصريح . ومن هنا كان الامتحان الإلهي لصلاحية الفرد إسلامياً وقوة إرادته إيمانياً ، كان شديد الوقع كبير التأثير صعب الاجتياز . ومن هنا ورد في بعض النصوص عن أئمة الهدى عليهم السلام حين سئلوا عن موعد ظهور المهدي (ع) : لا والله حتى تمحصوا ، ولا والله حتى تغربلوا ، ولا والله حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد(1) .

صفحة ( 21)
وهذا الامتحان الإلهي إنما شرع وأنجز "ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة"(2) . فإن من يشقى وينحرف ، يكون مقتنعاً بصواب رأيه وعمله ، فيهلك شقياً منحرفاً ، فيستحق اللعنة الإلهية والخسران الأبدي . وأما من سعد بإيمانه نتيجة للامتحان ، فإن إيمانه يكون صلباً قوياً ممحصاً ، بمعنى كونه ثابتاً رغم الظلم والطغيان ، ونتيجة للصمود والانتصار . وهو من أعظم وأوعى الإيمان . فيحي كل منهما ببينة، ويهلكان عن بينة .
صيغة البحث ومصاعبه :
إن تاريخ الغيبة الكبرى ، من حيث حوادثه العامة لعله من أوضح التواريخ وأسهلها تسجيلاً ، لأنه من التواريخ القريبة أو المعاصرة التي لا زلنا نعيشها ونمارس حوادثها .
إلا أن تاريخ هذه الفترة ، فيما يخص المهدي عليه السلام ، من أشد الغموض والتعقيد ، وصعوبة الاستنتاج ، لما سنشير إليه من العوامل . فإن الباحث الذي يطرق هذا الباب سوق يواجه عدداً ضخماً من الأسئلة لا بد من الجواب عليها ، ليكون البحث بحثاً تاريخياً منظماً واعياً إسلامياً . وأما مع إهما بعضها أو قسم منها ، فأننا سنواجه فراغات أو فجوات تاريخية مؤسفة .ومن هنا تكون وظيفة الباحث تحصيل الجواب على أكثر الأسئلة – على الأقل – ليتم لنا التاريخ المنظم الكامل الواعي .
فمن الأسئلة التي نواجهها : التساؤل عن مكان الإمام المهدي (ع) في غيبته الكبرى ، وطريقة حياته ، وأسباب عيشه الاعتيادية ، وهل يواجه الناس ، ومتى يواجههم ، وماذا يقول لهم ، وما هي سياسته العامة أمام المجتمع بشكل عام ، وتجاه قواعده الشعبية المؤمنة به ، بشكل عام ، وتجاه الذين يقابلونه بشكل خاص .
(1) انظر الحديث وايضاحات الامتحان الإلهي في داخل هذا الكتاب . (2) الأنفال : 8 / 42 .

صفحة ( 22)
وكيف يقضي وقته الطويل في خلال هذه السنين المترامية والقرون المتطاولة .
وهل هو متزوج وله ذرية أم لا ؟ وإذا كان متزوجاً فمن هي زوجته ، وأين هم أولاده ؟ وإذا لم يكن متزوجاً ، فهل يمكنه الزواج ، ومتى يتزوج ؟
ثم أنه هل من المستطاع تخمين وقت ظهوره إجمالاً ؟ وما هي العلامات التي نعرف بها قرب وقت الظهور. وهذه العلامات الواردة في الأخبار ، ما الذي يصح منها وما الذي لا يصح . وما هو الأسلوب الواعي الذي يمكننا أن نفهم به من هذه العلامات ... إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة المتنوعة .
والجواب على عدد من هذه الأسئلة ، وإن كان ممكناً على ضوء ما وردنا من الأخبار عن المعصومين عليهم السلام ومن الأخبار التي تضمنت مشاهدة الإمام عليه السلام . إلا أن عدداً آخر من الأسئلة لم يرد جوابه في رواية على الإطلاق ، أو ورد جوابه غامضاً مجملاً ، أو بشكل قام الدليل العقلي أو الشرعي على فساده وبطلانه .
ومن هنا نستطيع أن نلخص عوامل التعقيد والغموض في هذا البحث في العوامل التالية :
العامل الأول :
ضآلة أو انعدام الدليل الصالح للجواب على بعض الأسئلة ، كما أشرنا ، كالإشارة إلى مكانه أو طريقة حياته أو تحديد سياسيته العامة تجاه الآخرين ... كما سنسمع .
العامل الثاني :
إن بعض ما وردنا من الأخبار ، قام الدليل على بطلانها ، واقتضت القواعد العقلية أو الشرعية بطلانها . وذلك نتيجة لعد العوعي ، والانحراف الذي عاشه بعض الرواة نتيجة تأثرهم بعوامل الشر السائدة في عصور الغيبة الكبرى . ومن هنا كان لا بد من أخذ الأخبار بحذر ، والنظر إليها بمنظار النقد .
العامل الثالث :
إن أغلب بل جميع ما وردنا من الأخبار مما يصلح تاريخياً لهذه الفترة ، لا نجدها تواجه المشكلة المطروحة بصراحة أو تعطينا الجواب بوضوح .

صفحة ( 23)
بل نراها بجميع أساليبها وحقولها تحيط المهدي (ع) بهالة من القدس والغموض ، بحيث لا يمكن الكلام المباشر عنه، أو الخوض في حاله . وكأنه لا بد من إعطاء صورة واحدة من حياة وقسم صغيرة من واقع ، لا يكاد يسمن من جوع أو يغني عن سؤال .
ومن هنا يضطر الباحث إلى استشمام ما وراء الحوادث والنظر إلى الدلالات البعيدة ، ومحاولة إيجاد النظر الجموعي إلى الأخبار وتكوين نظرة عامة موحدة عن الجميع ، قائمة على أساس صحيح من حيث قواعد الإسلام .
العامل الرابع :
عدم مشاركة المسلمين من إخواننا العامة في هذا الحقل . فإنهم رووا في ميلاده ورووا في ظهوره ، إلا أنهم لم ينبسوا ببنت شفة تجاه أخبار الغيبة الكبرى ، ما عدا بعض النوادر من أخبار مشاهدتهم للمهدي خلال هذه الفترة .
والعذر لهم في ذلك واضح عقائدياً ، وذلك لأنهم لا يرون وجود المهدي خلال هذه الفترة ، بل يذهب أكثرهم إلى أن المهدي شخص يولد في وقته المعين عند الله تعالى ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً .
وأما نحن ، فحين نقيم الدليل على حياته من حيث إمكانها وتحققها ، فينفتح الكلام عن الغيبة الكبرى سخياً موفراً بما فيها من حقائق وتاريخ . أما هذه الدليل المشار إليه فهو موكول إلى أجزاء آتية من هذه الموسوعة . وأما التاريخ فهو مما يتكلفه هذا الكتاب .
ويكاد الكلام أن ينحصر فيما ورد من طرق الإمامية من الأخبار ، فيكون عددها – ولا شك – أقل بكثير مما لو شاركت أخبار العامة بإمدادها نصاً أو معنى .
إلا أن ذلك مما لا يكاد يخل بغرضنا من هذا البحث ، فإن الغرض الأساسي منه هو إثبات الفكرة الكاملة عن الإمام المهدي (ع) كما تعتقدها قواعده الشعبية ، وكما تقتضيها قواعد العقل والإسلام ، خالية من الزوائد والخرافات والانحرافات . ليرى منكروها – من أي صنف كانوا من البشر – مقدار ما في الفكرة الإمامية عن المهدي من عدالة ووعي إسلاميين .
ومعه ، فينبغي الاقتصار على ما ورد في طرقنا من أخبار وعلى ألسنة مؤرخينا من كلام ، حتى تبرز الصورة المطلوبة من خلال ذلك ، دون زيادة أو تحريف .مع ضم القليل مما ورد من أخبار العامة صالحاً لتاريخ هذه الفترة، فأنه يكون أيضاً محطاً للاستدلال والاعتماد، عندما نخرج بصحته بعد التمحيص .

صفحة ( 24)
تذليل هذه المصاعب :
يكون تذليل الصعوبات المنهجية الناتجة عن هذه العوامل ، باتخاذ منهج معين وقاعدة عامة يمكن تطبيقها والاستفادة منها في جميع الموارد ، وتحصيل الجواب الشافي عن كل سؤال على أساسها .
وملخص المنهج الذي سنسير عليه ، هو : إن السؤال المُثار تاريخياً ، له صورتان . إحداهما : أن يوجد في الأخبار ما يصلح أن يكون جواباً عنه . وثانيتهما : أن لا يوجد في الأخبار شيء من ذلك . ويقع الحديث عن كل من الصورتين مستقلاً :
الصورة الأولى :
ما إذا كان الجواب على السؤال التاريخي ، موجوداً في الأخبار . ففي مثل ذلك لا بد من النظر الفاحص الناقد الممحص ، وعرضه على القواعد العامة العقلية والشرعية . وحينئذ ، فلا يخلو أمره : أما أن ينسجم معها أو لا ينسجم . وعلى كلا التقديرين فأما أن يوجد له معارض من الأخبار أو لا يوجد . إذن يكون للجواب عدة حالات .
الحالة الأولى :
أن يكون مضمون الخبر أو العدد من الأخبار ، الصالح لتذليل المشكلة التاريخية ، منسجماً مع القواعد العامة العقلية والشرعية ولا يكون له معارض . فنأخذ به ونسير عليه . ولا إشكال في ذلك .
ونقصد بالانسجام مع القواعد ، مجرد عدم التنافي بين مضمون الخبر وبينها . بمعنى أنه لا توجد قاعدة عامة نافية له أو دالة على بطلانه . وأما الانسجام بمعنى الاتفاق معها في المضمون ، فهو غير محتمل ، لأن شأن القواعد العامة عدم التعرض إلى الموارد الخاصة والخصائص التفصيلية . فتبقى درجة إثبات الخبر لمضمونه بمقدار ما له من قوة إثبات واعتبار ووثاقة في الراوي وترابط في المدلول ، وعدد في النقول التاريخية ووجود الشواهد والقرائن على صحتها . ونحو ذلك . ولا بد – على هذا المستوى – من جمع الأخبار ، والنظر إلى موارد اتفاقها واختلافها ، وما تستقل ببيانه بعض الأخبار دون بعض ، لكي يستنتج من ذلك نظرية متكاملة تدل عليها سائر الأخبار ولا ينافيها شيء منها. لكي تصلح أن تكون هذه الأطروحة أو النظرية جواباً شافياً عن السؤال التاريخي أوالمشكلة المطروحة .

صفحة ( 25)
الحالة الثانية :
أن يكون مضمون الخبر ، خالياً عن المعارض ، إلا أنه معارض مع القواعد العامة العقلية أو الشرعية . ومن المعلوم – في مثل ذلك – لزوم طرحه وعدم الأخذ به .
إلا أننا نود أن نشير إلى أن الساقط من الخبر يكون محدداً بحدود المدلول الباطل ، دون غيره . فلو احتوت رواية واحدة على مضمون باطل ومضمون صحيح ، أخذنا بالصحيح ورفضنا الباطل ، ولا يستدعي رفض بعضها رفض الجميع . وعلى أي حال ، فلو سقط مضمون الخبر ، ولم يصلح لحل المشكلة ، ولم يكن غيره موجوداً ، كان المورد – في الحقيقة – خالياً عن الإثبات التاريخي ، فيندرج في الصورة الثانية الآتية :
الحالة الثالثة :
أن يكون مضمون الخبر معارضاً بمثله ، فكان لدينا على السؤال التاريخي جوابان متعارضان في الأخبار . فأي من الجوابين أو الخبرين نقدم ؟ هذا له عدة أشكال :
الشكل الأول :
أن يكون أحد الخبرين منسجماً مع القواعد العامة دون الآخر . فنأخذ بالمنسجم بطبيعة الحال ، وندع الآخر، لأن انسجام الخبر مع القواعد يكون مرجحاً له في مورد التعارض .
الشكل الثاني :
أن يكون كلا الخبرين المتعارضين غير منسجمين مع القواعد العامة ، فيتعين طرحهما معاً ، ويبقى السؤال خالياً عن الجواب ، فيندرج في الصورة الثانية الآتية .

صفحة ( 26)
الشكل الثالث :
أن يكون كلاهما منسجمين مع القواعد العامة ، أي أنها لا تنافي أياً منهما . ففي مثل ذلك لا بد من الرجوع إلى القرائن الخاصة للترجيح ، ككثرة الأخبار في أحد الجانبين أو اعتضاده بنقول أخرى ، ونحو ذلك ، وإن لم توجد مثل هذه القرائن فلا بد من الالتزام بتساقط المضمونين . فيكون المورد كأنه خال عن الخبر يعجز كل منهما عن الإثبات التاريخي. فيندرج السؤال في الصورة الثانية الآتية . ونكرر هنا أيضاً ،أن سقوط بعض مداليل الخبر نتيجة للتعارض، غير موجب لسقوط جميع ما دلت عليه من مضامين .
الصورة الثانية :
ما إذا كان المورد خالياً عن الجواب في الأخبار بالمرة ، أو كان الخبر الدال على وجوبه ساقطاً عاجزاً عن الإثبات، لفساده بحسب القواعد العامة أو نتيجة للتعارض ، بالنحو الذي أوضحناه في الصورة الأولى .
وفي مثل ذلك يبقى المورد خالياً عن الجواب ، ويمكن اعتباره فجوة تاريخية مؤسفة بالنسبة إلى الأخبار . وينحصر تحصيل الجواب عليه من القواعد العامة والقرائن المربوطة بالمورد . ثم نصوغ للجواب (أطروحة) معينة محتملة الصدق ، ونقيم من هذه القواعد والقرائن مؤيدات لها . فيتعين الأخذ بهذه الأطروحة بصفتها الحل الوحيد للمشكلة .
فكرة عن مباحث الكتاب :
إذا اتضح هذا المنهج وصح ، يكون في الإمكان أن ندخل في تفاصيل تاريخ الغيبة الكبرى ، مقسمين البحث إلى أقسام ثلاثة :
القسم الأول :
في تاريخ شخص الإمام المهدي (ع) خلال هذه الفترة ، وما يتصف به من خصائص وصفات .
القسم الثاني :
في سرد الحوادث والصفات التي تكون للإنسانية عامة وللمجتمع المسلم خاصة ، بحسب ما ورد في الأخبار ، وما تقتضيه القواعد العامة .

صفحة ( 27)
القسم الثالث :
في علائم الظهور الواردة في الأخبار ومحاولة فهمها فهماً واعياً منظماً ، على ضوء المنهج السابق .
وهنا لا بد أن نشير إلى تعذر ما كنا عملناه في تاريخ الغيبة الصغرى من إعطاء فكرة عن التاريخ العام للفترة التي نعرض لها قبل التكلم من تاريخها الخاص المقصود . فإن فترة الغيبة الصغرى حيث كانت محدودة أمكن ضبط تاريخها العام ، في فصل معين . وأما تفرة الغيبة الكبرى ، فتنقسم إلى مستقبل وإلى ماضٍ ، بالنسبة إلى عصرنا الحاضر . أما المستقبل فلا يعلمه إلا الله عز وجل . وأما الماضي فلو استع المجال لضبط تاريخ طوله حوالي ألف ومئة سنة ، لأمكن أن نتصدى لذلك إلا أن ذلك خارج عن طوق البحث الفردي ، مهما زاد واتسع . فضلاً عن المبني على اختصار . على أن للفرد المثقف الاعتيادي فكرة كافية عن التاريخ الحديث في الألف سنة المعاصرة . وهي وإن كانت فكرة مختصرة إلا أنها كافية في التقديم لهذا البحث ، ولا تحتاج إلى أكثر من ذلك لندرة ارتباط التاريخ الخاص بالمهدي (ع) خلال هذه الفترة بالحوادث العامة . بخلاف ما كان عليه الحال في زمن الأئمة المعصومين (ع) والغيبة الصغرى من زيادة الارتباط .

صفحة ( 28)
القسم الاول
تاريخ شخص الإمام المهدي
من حيث مكانه ومعيشته وتكليفه الشرعي بحفظ الشريعة الإسلامية ،
ولقائه مع الناس وقضائه لحوائجهم ، والكلام عن ذريتهم ، وغير ذلك .
والكلام حول ذلك يقع ضمن فصول متعددة .

صفحة ( 29)
الفصل الأول
في السر الأساسي لغيبة المهدي (ع)
ونريد به الأسلوب الأساسي الذي يتبعه عليه السلام في احتجابه عن الناس ونجاته من براثن الظلم . وبمعرفتنا لهذا الأسلوب ، سيسهل علينا الجواب على عدد كثير من الأسئلة التي تثار في الفصول الآتية ن إن شاء الله تعالى.
نواجه في باديء الأمر ، في أسلوب احتجابه أطروحتين أساسيتين :
الأطروحة الأولى : أطروحة خفاء الشخص :
وهي الأطروحة التقليدية المتعارفة المركوزة في ذهن عدد من الناس ، وتدل عليه ظواهر بعض الأدلة على ما سنسمع . وهي أن المهدي (ع) يختلفي جسمه عن الأنظار ، فهو يرى الناس ولا يرونه ، وبالرغم من أنه قد يكون موجوداً في مكان إلا أنه يُرى المكان خالياً منه .
أخرج الصدوق في إكمال الدين(1) بإسناده عن الريان بن الصلت ، قال : سمعته يقول : سئل أبو الحسن الرضا (ع) عن القائم (ع) ، فقال : لا يرى جسمه ولا يسمى باسمه .
(1) انظر الأخبار الثلاثة في المصدر المخطوط .

صفحة ( 31)
وأخرج بإسناده عن الصادق جعفر بن محمد (ع) في حديث : قال : الخامس من ولد السابع يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته . وأخرج أيضاً بإسناده عن عبيد بن زرارة قال سمعت أبا عبدالله (ع) يقول :
يفقد الناس أمامهم فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه .
وهذه الأطروحة هي أسهل افتراض عملي لاحتجاب الإمام المهدي (ع) عن الناس ونجاته من ظلم الظالمين. فإنه في اختفائه هذا يكون في مأمن قطعي حقيقي من أي مطاردة أو تنكيل ، حيثما كان على وجه البسيطة.
وهذا الاختفاء يتم عن طريق الإعجاز الإلهي ، كما تم طول عمره لمدى السنين المتطاولة بالإعجاز أيضاً . وكان كلا الأمرين لأجل حفظ الإمام المهدي (ع) عن الموت والأخطار ، لكي يقوم بالمسؤولية الإسلامية الكبرى في اليوم الموعود .
ونحن نعلم بالدليل القطعي في الإسلام أهمية هذا اليوم الموعود عند الله عز وجل وعند رسوله ، فإنه اليوم الذي يتحقق به الغرض الأساسي من خلق البشرية ، على ما سنعرف ، وتتنفذ به آمال الأنبياء والمرسلين، وتتكلل جهودهم بالنجاح ، بوجود المجتمع العادل وإنجاز دولة الحق . كما أننا نبرهن(1) على أن الأهداف الإلهية المهمة ، إذا توقف وجودها على المعجزة ، فإن الله تعالى يوجدها لا محالة لا محالة ، من أجل تحقيق ذلك الهدف المهم .
وإذا نعتقد – كما هو المفروض في هذا التاريخ – بولادة الإمام المهدي (ع) المذخور لليوم الموعود ، يتبرهن لدينا بوضوح كيف ولماذا تعلق الغرض الإلهي بحفظه وصيانته ، كما تعلق بطول عمره . فإذا كانت صيانته منحصرة باختفاء شخصه ، لزم على الله عز وجل تنفيذ هذه المعجزة وفاء بغرضه الكبير .
وتضيف هذه الأطروحة الأولى ، قائلة : بأن هذا الاحتجاب قد يزول أحياناً ، عندما توجد مصلحة في زواله: كما لو أراد المهدي (ع) أن يقابل شخصاً من البشر لأجل أن يقضي له حاجة أو يوجه له توجيهاً أو ينذره إنذاراً . فإن المقابلة تتوقف على رؤيته ، ولا تتم مع الاختفاء .
(1) انظر لمعجزة في المفهوم الإسلامي ، مخطوط للمؤلف .

صفحة ( 32)
ويكون مقدار ظهوره للناس محدوداً بحدود المصلحة ، فإن اقتضت أن يظهر للناس ظهوراً تاماً لكل رائي تحقق ذلك، واستمرت الرؤية بمقدار أداء غرضه من المقابلة . ثم يحتجب فجأة فلا يراه أحد ، بالرغم من أنه لم يغادر المكان الذي كان فيه. وإذا اقتضت ظهوره لشخص دون شخص تعين ذلك أيضاً ، إذ قد يكون انكشافه للآخرين خطراً عليه.
وعلى ذلك تحمل كل أخبار مشاهدة المهدي (ع) خلال غيبته ، حتى ما كان خلال الغيبة الصغرى ، وخاصة فيما سمعناه في تاريخ الغيبة الصغرى(1) بأن المهدي (ع) ظهر لعمه جعفر الكذاب مرتين ، ثم اختفى من دون أن يعلم أين ذهب . فأنه يعطي أن الاختفاء كان على شكل هذه الأطروحة .
وأما أخبار المشاهدة خلال الغيبة الكبرى ، فبعضها ظاهر في الدلالة على ذلك ، بل منها ما هو صريح به . بل أن بعض هذه الأخبار تتوسع ، فتنسب الاختفاء إلى فرسه الذي يركبه وخادمه الذي يخدمه ، بل حتى الصراف الذي يحوّل عليه شخصاً لأخد المال(2) .
وأود أن أشير في هذا الصدد إلى أن هذه الأطروحة في غنى عما نبزه بعض مؤرخي العامة على المعتقدين بغيبة المهدي (ع) .من أنه نزل إلى السرداب واختفى فيه ولم يظهر.كما سبق أن ناقشنا ذلك في تاريخ الغيبة الصغرى(3). وأن أخبار مشاهدة المهدي (ع) في كل من غيبته الصغرى والكبرى مجمعة على مشاهدته في أماكن أخرى . وعلى أي حال ، فهذه الأطروحة في غنى عن ذلك ، لوضوح إمكان اختفاء المهدي (ع) بشخصه في أي مكان ، ولا ينحصر ذلك في السردات بطبيعة الحال .
وسيأتي في الفصول الآتية ، ما يصلح أن يكون تكملة للتصور المترابط للمهدي (ع) بحسب هذه الأطروحة.
الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان :
ونريد به أن الناس يرون الإمام المهدي (ع) بشخصه بدون أن يكونوا عارفين أو ملتفتين إلى حقيقته .
(1) انظر ص 314 . (2) انظر النجم الثاقب ، ص 351 . (3) المصدر ، ص 563

صفحة ( 33)
فإننا سبق أن عرفنا من تاريخ الغيبة الصغرى ، أن المهدي (ع) رباه أبوه محتجباً عن الناس ، إلا القليل من الخاصة الذين أراد أن يطلعهم على وجوده ويثبت لهم إمامته بعده . ثم ازداد المهدي (ع) احتجاباً بعد وفاة أبيه وأصبح لا يكاد يتصل بالناس إلا عن طريق سفرائه الأربعة . غير عدد من الخاصة المأمونين الذين كانوا باحثين عن الخلف بعد الإمام العسكري عليه السلام ، كعلي بن مهزيار الأهوازي وغيره . وكان المهدي (ع) يؤكد عليهم في كل مرة الأمر بالكتمان والحذر .
وكلما تقدمت السنين في الغيبة الصغرى ، وتقدمت الأجيال ، قلّ الذين عاصروا الإمام العسكري عليه السلام وشاهدوا ابنه المهدي (ع) ، حتى انقرضوا . ووجدت أجيال جديدة لا تعلم من أسلوب اتصالها بالإمام (ع) إلا الاتصال بسفيره ،على أفضل التقادير. وكان هذا الجيل – بشكل عام – جاهلاً بالكلية بسحنة وشكل إمامه المهدي (ع) ، بحيث لو واجهوا لما عرفوه البتة إلا بإقامته دلالة قطعية على شخصيته .
ومن هنا تيسر له – كما علمنا في ذلك التاريخ – فرصة السفر إلى مختلف أنحاء البلاد كمكة ومصر ، من دون أن يكون ملفتاً لنظر أحد .
وهذا ما نعنيه من خفاء العنوان . فإن أي شخص يراه يكون غافلاً بالمرة عن كونه هو الإمام المهدي (ع). وإنما يرى فيه شخصاً عادياً كسائر الناس لا يلفت النظر على الإطلاق .
ويمكن للمهدي (ع) أن يعيش في أي مكان يختاره وفي أي بلد يفضله سنين متطاولة ، من دون أن يلفت إلى حقيقته نظر أحد . وتكون حياته في تلك الفترة كحياة أي شخص آخر يكتسب عيشه من بعض الأعمال الحرة كالتجارة أو الزراعة أو غيرها . ويبقى على حاله هذه في مدينة واحدة أو عدة مدن ، حتى يأذن الله تعالى له بالفرج . ويمكن الاستدلال على هذه الأطروحة ، انطلاقاً من زاويتين :
الزاوية الأولى :
الأخبار الواردة بهذا الصدد منها : ما أخرجه الشيخ الطوسي في الغيبة(1) عن السفير الثاني الشيخ محمد عن عثمان العمري أنه قال : والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه .
والمقصود بصاحب هذا الأمر : الإمام المهدي (ع) ، والمراد بالموسم موسم الحج . والرواية واضحة الدلالة على عدم اختفاء الشخص ومقترنة بالقسم بالله تعالى تأكيداً . وصادرة من سفير المهدي (ع) وهو أكثر الناس اطلاعاً على حاله .
ومنها : ما ورد عن السفير من قوله حول السؤال عن اسم الإمام المهدي (ع) : وإذا وقع الاسم وقع الطلب(2) .
فإنه ليس في طلب الحكام للمهدي (ع) ومطاردتهم له ، أي خطر ولا أي تأثير ، لو كانت الأطروحة الأولى صادقة وكان جسم المهدي (ع) مختفياً ، إذ يستحيل عليهم الوصول إليه . وإنما يبدأ الخطر والنهي عن الاسم تجنباً للمطاردة طبقاً للأطروحة الثانية . فأنه ما دام عنوان المهدي (ع) واسمه مجهولين ، يكون في مأمن عن المطاردة، وأما إذا "وقع الاسم" وعرف العنوان ، لا يكون هذا الأمن متحققاً ويكون احتمال المطاردة قوياً .
ومنها : ما ورد من التوقيع الذي خرج من المهدي (ع) إلى سفيره محمد بن عثمان رضي الله عنه يقول فيه : فإنهم إن وقفوا على الاسم أذاعوه ، وإن وقفوا على المكان دلّوا عليه(3) .
فإنه لو صدقت الأطروحة الأولى لم يكن رؤية المهدي (ع) في أي مكان على الإطلاق ، ولم يكن في الدلالة على أي مكان خطر أصلاً . وإنما يكون الخطر موجوداً طبقاً للأطروحة الثانية .
(1) انظر المصدر ص 221 . (2) نفس المصدر ، ص 219 . (3) المصدر ، ص 222 .

صفحة ( 35)
ومنها : ما قاله أبو سهل النوبختي حين سئل فقيل له : كيف صار هذا الأمر إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك ، فقال : هم أعلم وما اختاروه . ولكن أنا رجل ألقى الخصوم وأناظرهم . ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجة على مكانه لعلّي كنت أدل على مكانه . وأبو القاسم فلو كانت الحجة تحت ذيله وقرض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه(1) .
ومن الواضح أنه لا معنى لكل هذه الاحتياطات والتحفظات مع صحة الأطروحة الأولى أي اختفاء شخص المهدي عليه السلام . وإنما لا بد من ذلك مع صحة الأطروحة الثانية ، فإن الدلالة على المكان مستلزم لانكشاف العنوان . والقائل لهذا الكلام هو أبو سهل النوبختي الذي كان من جلالة القدر والوثاقة بحيث كان من المحتمل أن يكون هو السفير عن الإمام (ع) ... ومن هنا سئل في هذه الرواية عن غض النظر عنه وإبداله بالشيخ ابن روح .
فهذه جملة من الأخبار الدالة على صحة الأطروحة الثانية ، وبطلان الأولى . إلى أخبار غيرها لا نطيل الحديث بسردها .
الزاوية الثانية :
قانون المعجزات الذي يقول : إن المعجزة إنما تحدث عند توقف إقامة الحق عليها ، واما مع عدم هذا التوقف ، وإمكان إنجاز الأمر بدون المعجزة فإنه لا تحدث بحال . كما برهنا عليه في محله(2) .
ولا شك أن حفظ الإمام المهدي (ع) وبقاءه مما يتوقف عليه إقامة الحق بعد ظهوره . فلو توقف حفظه على إقامة المعجزة بإخفائه شخصياً لزم ذلك . إلا أن هذا غير لازم لما عرفناه من كفاية خفاء العنوان في إنجاز الغرض المطلوب وهو حفظه من كيد الأعداء . وسنذكر فيما يلي بعض الإيضاحات لذلك . ومن هنا تكون معجزة اختفائه بلا موضوع ، ويتعين الأخذ بالأطروحة الثانية .
ومن أجل تنظيم هذه الأطروحة فكرياً وبرهانياً ، لا بد من الجواب عليها .
(1) المصدر ، ص 240 . (2) انظر المعجزة في المفهوم الإسلامي ، المخطوط .

صفحة ( 36)
السؤال الأول :
إذا كان المهدي (ع) ظاهراً بشخصه للناس ، وهم لا يعرفونه ، فكيف لا يلتفتون إليه طوال السنين ، وهم يرونه باقياً لا يموت ، على حيث يموت غيره من الناس .
وفي هذا السؤال غفلة عن الأسلوب الذي يمكن للمهدي (ع) أن يتخذه تلافياً لهذا المحذور . فإنه لو عاش في مدينة واحدة حقبة طويلة من الزمن لانكشف أمره لا محالة . ولكنه – بطبيعة الحال – لا يعمل ذلك ، بل يقضي في كل مدينة أو منطقة ، عدداً من السنين تكون كافية لبقاء غفلة الناس عن حقيقته .
فلو كان يقضي في كل مدينة من العالم الإسلامي خمسين عاماً ، لكان الآن قد أكمل سكنى اثنتين وعشرين مدينة . وتوجد في العالم الإسلامي أضعاف ذلك من المدن التي يمكن للمهدي (ع) أن يسكنها تباعاً . كما يمكن أن يعود إلى نفس المدينة التي سكن بها ، بعد مضي جيلين أو أكثر وانقراض من كان يعرف شخصه من الناس .
ومن البسيط جداً ألا ينتبه الناس إلى عمره خلال السنوات التي يقضيها في بلدتهم . فإن هناك نوعاً من الناس ، نصادف منهم العدد غير القليل ، تكون سحنتهم ثابتة التقاطيع على مر السنين . فلو فرضنا – في الأطروحة – كون المهدي (ع) على هذا الغرار ، لم يكن ليثير العجب بين الناس ، بعد أن يكونوا قد شاهدوا عدداً غير قليل من هذا القبيل .
ثم حين يمر الزمان الطويل ، الذي يكون وجود المهدي (ع) فيه ملفتاً للنظر ومثيراً للانتباه ، يكون المهدي (ع) قد غادر هذه المدينة بطريق اعتيادي جداً إلى مدينة أخرى ليسكن فيها حقبة من السنين . وهكذا .
السؤال الثاني :
أنه كيف تتم المقابلة مع الإمام (ع) ، على الشكل الوارد في أخبار المقابلة ؟ وكيف يختفي الإمام بعدها ؟
أما حدوث المقابلة ، ففي غاية البساطة ، فإنه عليه السلام إذ يى المصلحة في مقابلة شخص ، فإنه يكشف له عن حقيقته إما بالصراحة ، أو بالدلائل التي تدل عليه في النتيجة ، لكي يعرف الفرد أن الذي رآه هو المهدي (ع) ولو بعد حين .

صفحة ( 37)
والمهدي (ع) يحتاج في إثبات حقيقته لأي فرد إلى دليل ، لجهل الناس جهلاً مطلقاً بذلك . وهو يعبّر عن معجزة يقيمها الإمام (ع) في سبيل ذلك ، وهذه المعجزه تقوم في طريق إثبات الحجة على المكلفين ، فتكون ممكنة وصحيحة ، وهي طريق منحصر لإثبات ذلك ، كما هو واضح ، إذ بدونها يحتمل أن لا يكون هو المهدي (ع) على أي حال .
والغالب في أخبار المشاهدة أن الفرد لا ينتبه إلى حقيقة المهدي (ع) إلا بعد فراقه ، ومضي شيء من الزمان . لأن الفرد لا يستطيع أن يشخّص أن ما قام به المهدي (ع) أو ما قاله هو من المعجزات الخاصة به ، إلا بعد مفارقته بمدة . وبذلك يضمن المهدي (ع) خلاصه من الاطلاع الصريح المباشر على حقيقته في أثناء المقابلة ، فتندفع عنه عدة مضاعفات محتملة .
وأما أن كيف يختفي المهدي (ع) بعد انتهاء المقابلة ، فذلك أطروحتان ، من الممكن له تطبيق أي منهما .
الأولى : الاختفاء الشخصي الإعجازي . فيما إذا انحصر طريق التخلص به ، فيكون مطابقاً مع قانون المعجزات .
الثانية : وهي المتحققة على الأغلب في ظروف اللقاء المنقولة لنا في أخبار المشاهدة ، سواء ما وقع منها في عصر الغيبة الصغرى أو ما يقع في الغيبة الكبرى . وهو الاختفاء بطريق طبيعي ، لعدم انحصار التخلص بالمعجزة. بل كان المهدي (ع) يزجي هذا الأمر بنحو عادي جداً غير ملفت للنظر . كما لو أصبح رفيقاً في السفر مع بعض الأشخاص ثم يفارقه(1) أو يبقى المهدي (ع) في مكانه ويسافر عنه الشخص الآخر(2) . أو أن المهدي يوصل شخصاً إلى مأمنه من متاهة وقع فيها ثم يرجع . ولايلتفت ذلك الشخص إلى حقيقة منقذه إلا بعد ذهابه(3) . ويكون لغفلته هذه الأثر الكبير في سهولة وسرعة اختفاء المهدي عنه . ومع إمكان الاختفاء الطبيعي ، يكون الاختفاء الإعجازي بلا موضوع .
(1) انظر الغيبة للشيخ الطوسي ، ص 181 . (2) انظر النجم الثاقب ، ص 306 . (3) انظر المصدر ، ص 341 وغيرها .

صفحة ( 38)
ويستطيع المهدي (ع) أن يخطط بمقابلته نحواً من الأسلوب ، ينتج غفلة الرائي عن كونه هو المهدي (ع) في أثناء المقابلة . وإنما يتوصل إلى الالتفات إلى ذلك بعدها . ويقيم دلائله بحيث لا تكون ملفته للنظر أثناء وقوعها ، وإنما يحتاج الالتفاف إليها إلى شيء من الحساب والتفكير ، لا يتوفر – عادة – إلى بعد اختفاء المهدي . وهذا هو الديدن الذي يطبقه الإمام (ع) في أغلب المقابلات .
وهذا التخطيط المسبق الذي يقوم به المهدي (ع) يغنيه عن التفكير في طريقة الاختفاء عند المقابلة . وإن كان لا يعدم – بغض النظر عن الاختفاء الإعجازي – مثل هذه الطريقة . ولئن كنا نرى في كل زمانأشخاصاً عارفين بطرق الاختفاء السريع ، لمختلف الأغراض ، كالبحث عن المجرمين أو الهرب من العقاب . أو عن مقابلة الدائن ، أو غير ذلك ... فكيف بالإمام المهدي (ع) صاحب القابليات غير المحدودة الذي يستطيع بها أن يحكم العالم كله ، والعد لذلك من الله تعالى إعداداً خاصاً .
السؤال الثالث :
إن من يرى المهدي (ع) ، فسوف يعرفه بشخصه ، وسيعرفه كلما رآه . وهو ما يؤدي بالمهدي (ع) تدريجاً إلى انكشاف أمره وانتقاء غيبته المتمثلة بخفاء عنوانه والجهل بحقيقته . إذ من المحتمل للرائي أن يخبر الآخرين بذلك، فيعرفون حقيقته وينكشف أمره .
ويمكن الانطلاق إلى الجواب على مستويات ثلاثة :
المستوى الأول :
إن الفرد الذي يحظى بمقابلة المهدي (ع) لن يكون إلا من خاصة المؤمنين المتكاملين في الإخلاص – على الأغلب – ومثل هذا الفرد يكون مأموناً على إمامه (ع) من النقل إلى الآخرين . فإن الناس لا يعلمون من هذا الشخص أنه رأى المهدي وعرفه ، وله الحرية في أن يقول ذلك أو أن يستره ، أو أن يبدي بعض الحادث ويخفي البعض الآخر ، بالمقدار الذي يحقق به مصلحة الغيبة والستر على الإمام الغائب عليه السلام .

صفحة ( 39)
المستوى الثاني :
إذا لم يكن الرائي مأموناً ، فيما إذا اقتضت المصلحة مقابلته ، فقد يكون بعيد المزار جداً ، ويكون المهدي (ع) عالماً سلفاً بأنه لن يصادفه في مدينته أو في الأماكن التي يطرقها طيلة حياته . ومعه فيكون الخطر المشار إليه في السؤال غير ذي موضوع .
المستوى الثالث :
إذا كان الرائي قريباً في مكانه من المنطق التي يسكنها المهدي (ع) ولم يكن مأموناً ، فإنه يحتاج المهدي إلى تخطيط معين لتفادي الخطر المذكور .
ولعل أوضح تخطيط وأقربه إلى الأذهانهو أن يغير زيه الذي يعيش به عادة بين الناس ليقابل الفرد المطلوب بزي جديد . ومن هنا نرى الإمام المهدي (ع) – على ما دلت عليه الروايات – يقابل الناس بأزياء مختلفة . ففي عدد من المرات يكون مرتدياً عقالاً وراكباً جملاً أو فرساً . وفي مرة على شكل فلاح يحمل المنجل ، وأخرى على شكل رجل من رجال الدين العلويين(1) . وهذا أحسن ضمان لعدم التفات الناس إلى شخصيته المتمثلة بزيه العادي .
على أن المقابلات تقترن في جملة من الأحيان ، بأشكال من الضرورة والحرج عند الفرد ، وهي الضرورة التي يريد المهدي (ع) إزالتها ، على ما سنسمع ، ومثل هذا الفرد يصعب عليه ، وهو في حالته تلك تمييز سحنة الإمام (ع) بشكل يستطيع أن يشخصه بعد ذلك ، خاصة وهو في زيه التنكري .
وهناك أساليب أخرى ، يمكن اتخاذها في هذا الصدد ، لا ينبغي أن نطيل بها الحديث .
ولو فرض أنه احتاج الأمر وانحصر حفظ الإمام عليه السلام بالإعجاز بطريق الاختفاء الشخصي ، لو قابله الفرد الرائي مرة ثانية ، لكان ذلك ضرورياً ومتعيناً . أو تكون المعجزة على شكل نسيان الرائي لسحنة الإمام (ع) بعد المقابلة .
(1) راجع ذلك في النجم الثاقب في عدد من مواضيع الكتاب .

صفحة ( 40)
فهذه ثلاثة أسئلة مع أجوبتها تضع الملامح الرئيسية على أطروحة خفاء العنوان . وسيأتي لها العديد من الإيضاحات والتطبيقات في الفصول الآتية .
وعرفنا أيضاً كيف تتبرهن هذه الأطروحة في مقابل الأطورحة الأولى ، من حيث أن باستطاعة الإمام المهدي (ع) أن يحتجب عن الناس بكشل طبيعي لا إعجاز فيه ، ما لم يتوقف احتجابه على الإعجاز ، طبقاً لقانون المعجزات . وإذا تمّ ذلك يكون الالتزام باختفائه الشخصي الدائم ، بالمعجزة ، منفياً بهذا القانون ، وينبغي تأويل أو نفي كل خبر دال عليه .
كما أن هذه الأطروحة الثانية ، هي التي تنسجم مع التصورات العامة التي اتخذناها في فهم الأسلوب العام لحياة الإمام المهدي (ع) في غيبته الصغرى .
ونود أن نشير في خاتمة هذه الأطروحة إلى نقاط ثلاث :
النقطة الأولى :
أننا إذ نعرف أن المهدي (ع) متى استطاع الاحتجاب بشكل طبيعي ، فإن المعجزة لا تساهم في احتجابه ... لا نستطيع – على البعد – مقتضيات الظروف والأحوال التي يمر بها المهدي (ع) في كل مقابلة . وهل كان بإمكانه أن يختفي بشكل طبيعي ، أو يتعين عليه الاختفاء الإعجازي .
فمثلاً : إن لاختفائه بعد مقابلته لجعفر الكذاب مرتين ، احتمالين ، هما اختفاؤه الشخصي أو اختفاؤه الطبيعي ، بحسب الظروف التي كان يعيشها المهدي (ع) يومئذ . وأما بدء هذه المقابلة فلا حاجة إلى افتراض كونه إعجازياً ، بأي حال ، كما ذهب إليه رونلدسن(1) ، بل يمكن أن يكون طبيعياً اعتيادياً .
وعلى أي حال ، فبعض الروايات ، يمكنها أن تعطينا الظرف الذي تنتهي به المقابلة . حيث يتضح من بعضها إمكان الاحتجاب الطبيعي ، كما سبق أن مثلنا .بينما يتضح من بعضها تعيّن الاحتجاب الإعجازي أحياناً ، كما ستسمع في مستقبل هذا التاريخ .
(1) انظر عقيدة الشيعة ، ص 237 .

صفحة ( 41)
النقطة الثانية :
في الإلماع إلى الأنحاء المتصور لما يحصل بالمعجزة من أثر يوجب اختفاء الجسم على الناظر ، بالرغم من اقتضاء القوانين الكونية لحصول الرؤية .
فنقول : إن المعجزة أما أن تتصرف في الرائي أو في المرئي . فتصرفها في الرائي هو جعله بنحو يعجز عن إدراك الواقع الذي أمامه . فيرى المكان خالياً عن الإمام المهدي (ع) مع أنه موجود فيه بالفعل . فلو تعين بحسب المصلحة الملزمة والغرض الإلهي ، أن يراه شخص دون شخص ، كان نظر من يراه اعتيادياً، ونظر من لا يراه محجوباً بالمعجزة . وكذلك أيضاً التصرف في الحواس الأخرى كالسمع واللمس وغيرها ، وقد تحتجب بعض حواس الفرد دون بعض ، فيسمع صوت المهدي (ع) من دون أن يراه(1) .
وفرق الأطروحتين الرئيسيتين بالنسبة إلى الإعجاز الإلهي هو : أن الأطروحة الأولى ترى أن هذا الإعجاز هو الأمر الاعتيادي الدائم والثابت لكل الناس ، بالنسبة إلى حياة المهدي (ع) حال غيبته الكبرى . وإنما تحتاج مقابلته إلى استثناء عن هذا الدوام . على حين ترى الأطروحة الثانية أن الأمر الاعتيادي الدائم هو انكشاف جسم المهدي (ع) للناس وإمكان معاشرته معهم . ويحتاج اختفاء شخصه إلى استثناء لا يحدث إلا عند توقف حفظ الإمام المهدي (ع) عليه . وأما تصرف المعجزة في المرئي أي الواقع الموضوعي القابل للرؤية . فأوضح طريق لذلك هو أن تحول المعجزة دون وصول الصورة النورية الصادرة عن جسم المهدي (ع) أو ذبذباته الصوتية ، وغير ذلك مما تتقبله الحواس الخمس ... تحول دون وصولها إلى الرائي أو السامع . ومعه يكون الفرد عاجزاً أيضاً عن الإحساس بالواقع الموضوعي الذي أمامه . وهناك أكثر من نحو واحد ، متصور للمعجزة في محل الكلام ، وهي تحتاج إلى بحث فلسفي وفيزياوي مطول ، فيكون الأحجى أن تضرب عنه صفحاً تحاشياً للتطويل .
(1) البحار ، جـ 3 ، ص 146 .

صفحة ( 42)
النقطة الثالثة :
أنه ساعد الإمام المهدي (ع) في غيبته عوامل نفسية أربعة متحققة لدى الناس على اختلاف نحلهم واتجاهاتهم ، مما جعل عليهم من الممتنع التصدي للبحث عنه لأجل الاستفادة منه أو التنكيل به .
العامل الأول :
الجهل بشكله وهيئة جسمه جهلاً تاماً . وهو عامل مشترك بين أعدائه ومحبيه .
العامل الثاني :
إنكاره من قبل غير قواعده الشعبية بما فيهم سائل الحكام الظالمين الذي يمثل المهدي رمز الثورة عليهم وإزالة نظمهم من الوجود . فهم في إنكارهم له مرتاحين عن مطاردته ، وهو مرتاح من مطاردتهم .
العامل الثالث :
ارتكاز صحة الأطروحة الأولى عند عدد من قواعده الشعبية ، أخذاً بظواهر الأخبار التي سمعناها . إذ مع صحتها لا يكون هناك سبيل إلى معرفته بل يستحيل الإحساس بوجوده ، إلا عن طريق المعجزه ، وهي لا تتحقق إلا للأوحدي من الناس .
العامل الرابع :
الإيمان بعناية الله تعالى له وحفظه ليومه الموعود . فمتى تعلَّقت المصلحة بالمقابلة مع المهدي (ع) كان هو الذي يريدها . ومتى لم تتعلق بها المصلحة ، فالأصلح للإسلام والمسلمين ألا تتم المقابلة وإن تحرَّق الفرد المؤمن إليها شوقاً . ومن هنا يكون الفرد الاعتيادي في حالة يأس من مقابلته والتعرف إليه .

صفحة ( 43)
الفصل الثاني

التكليف الإسلامي للإمام المهدي (ع) في غيبته الكبرى
وما يقوم بتنفيذه تجاه الإسلام والمسلمين من أعمال نافعة ومصالح كبرى
ينقسم تكليف الإمام عموماً في الإسلام عند ظهوره وعد وجود المانع عن عمله ، إلى عدة أقسام :
القسم الأول :
وجوب توليه رئاسة الدولة وقيادة الأمة ، بمعنى تطبيق الأطروحة الكاملة للعدل الإسلامي على وجه الأرض. والأخذ بالأزمة العليا للمجتمع لأجل ضمان هذا التطبيق .
القسم الثاني :
وجوب الدعوة الإسلامية ، بمعنى إدخال المجتمع الكافر في بلاد الإسلام ، إما الحرب أو بالصلح أو بغيرهما.
القسم الثالث :
وجوب الحفاظ على المجتمع المسلم ضد الغزو الخارجي ، والدفاع عن بيضة الإسلام بالنفس والنفيس .
القسم الرابع :
وجوب الحفاظ على المجتمع المسلم ضد الانحراف وشيوع الفساد في العقيدة أو السلوك بالتوجيه الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ تعاليم الإسلام .

صفحة ( 45)
وهذه الأقسام الأربعة ، تجب وجوباً مطلقاً في أي مكان وزمان ، يجب أن يبذل الإمام والأمة في سبيلها أقصى ما يستطيع وتستطيع .
القسم الخامس :
وهو خاص بصورة عجز الإمام عن جملة من الأعمال السابقة ، لكونه يعيش في مجتمع منحرف يطارده ويراقبه ويعزله عن الأعمال الاجتماعية والسياسية ، كما كان عليه حال أئمتنا عليهم السلام – بشكل عام – وقد حملنا عن بعض جوانب ذلك صورة واضحة في تاريخ الغيبة الصغرى .
ففي مثل ذلك يكون عمل الإمام – كما رأينا في ذلك التاريخ – مكرساً – في الإغلب – على الحفاظ على قواعده الشعبية ومواليه ، وعلى حسن علاقتهم بالآخرين وحسن تلقيهم تعاليم الدين وتطبيقهم أحكام الإسلام .
نعم ، إن وجد الإمام طريقاً أحياناً إلى القيام ببعض الأعمال الإسلامية على نطاق واسع . وكان المانع مرتفعاً عنه في ذلك العمل ، وجب عليه إنجازه ، وكان ذلك العمل أوسع من قواعده الشعبية وشاملاً خيره لكل بلاد الإسلام .
القسم السادس :
وجوب إغاثة الملهوف وإعانة المضطر . وهو تكليف عام لا يختص بالإمام عليه السلام ، بل يعم كل مسلم. نعم ، قد يحول العجز عن الإغاثة أو وجود عمل أو هدف إسلامي أهم ، فيسقط وجوبها ، كما قرر في محله بحسب القواعد الإسلامية .
إذا علمنا هذه الأقسام ، وعلمنا أن الإمام المهدي (ع) ، يجب عليه بالنظر الأولي كل هذه الأمور جملة وتفصيلاً ، يجب أن يؤدي منها ما يستطيع إليه سبيلاً . شأنه في ذلك شأن أي إمام آخر . وقد أدى الأئمة من آبائه عليهم السلام ، ما استطاعوا من هذه التكاليف ، وتركوا ما عجزوا عنه ، أو اقتضت المصالح الإسلامية العليا تركه .
أما الإمام المهدي (ع) نفسه ، فهو مذخور للقيام بدولة الحق في اليوم الموعود ، وهو من أعظم الأهداف الإلهية ، يرتبط بأصل خلقه البشرية ووجودها على ما سنبرهن عليه في مستقبل هذا التاريخ . وقد علمنا من القواعد العامة بما فيها قانون المعجزات بأن الأهداف الإلهية العليا تتقدم على أي شيء آخر ، فكل ما تتوقف على حدوثه فإنه يحدث لا محالة وكل ما تتوقف على انتقائه وانعدامه فإنه ينتفي لا محالة ، سواء كان ذلك من أمور الكون أو من أحكام الشريعة .

صفحة ( 46)
فإذا نظرنا إلى هذا الهدف المهم ، الذي ذخر المهدي (ع) له ، وجدنا أن أموراً عديدة يتوقف على حدوثها كوجود المهدي (ع) وغيبته ، والمعجزة التي تتكفل طول بقائه ، والمعجزة التي تتكفل اختفاءه الشخصي أحياناً لصيانته من الأخطار . كما نجد أن أموراً يتوقف اليوم الموعود على انتفائها . فمن ذلك في جانب الأحكام : إن كل حكم شرعي يكون تطبيقه منافياً مع حفظ الإمام المهدي أو غيبته وبالتالي يكون منافياً مع وجود اليوم الموعود نفسه ، فإن هذا التطبيق يكون ساقطاً شرعاً عن الإمام ، ولا يجب عليه امتثال الحكم وتنفيذه . وأما الأحكام الشرعية الإسلامية غير المنافية مع هذه الأمور ، سواء الأحكام الشخصية كوجوب الصلاة والصوم ، أو العامة كوجوب الأمر بالمعروف – مثلاً – على ما سنسمع ، فلا موجب للالتزام بسقوطها ، بل تكون شاملة له ويجب عليه تنفيذها لفرض استطاعته ذلك ، باعتبار عدم منافاتها مع غيبته وهدفه .
إذا علمنا ذلك ، استطعنا أن نحكم بوضوح بسقوط التكليف بأي واحد من الأقسام السابقة ، إذا كان مستلزماً لانكشاف أمره وزوال غيبته . وهذا واضح إلى حد كبير في الأقسام الثلاثة الأولى ، فإنه مستلزم لذلك عادة، إلا أن يفترض كونه قائداً أو موجهاً بشخصية ثانوية يعرف بها غير صفة الحقيقة على ما سيأتي .
وبغض النظر عن ذلك ، تكون الأطروحتان الرئيسيتان للغيبة ، مختلفتين في المدلول :
أما بناء على صحة أطروحة خفاء الشخص ، فكل الأقسام يمتنع عليه القيام بها ، إلا ما كان خلال الأحوال الاستثنائية التي تتم فيها المقابلة مع الآخرين . لوضوح أنه حال اختفائه لا يمكنه القيام بأي عمل .
وقد يخطر في الذهن ، أنه يمكن للمهدي (ع) الظهور التام ، والقيام بسائر الأعمال وتطبيق كل الأحكام .
والجواب : إن هذا قبل أوانه لا يكون ممكناً . أولاً : لأنه منوط بإذن الله تعالى لا بإذن المهدي عليه السلام. وثانياً : لأن لانتصاره في يوم ظهوره شرائط معينة على ما سنعرف وبدون تحقق هذه الشرائط لا يمكن الانتصار وبالتالي لا يتحقق الهدف الأسمى المطلوب . إذن فلا بد من تأجيل الظهورالكامل إلى حين تحقق تلك الشروط ، ولا تجوز المبادرة إليه في الظروف غير المدروسة وتحت المناسبات الطارئة .

صفحة ( 47)
نعم ، يبقى احتمال واحد ، على تقدير صحة الأطروحة الأولى ، وهو إمكان الإكثار من المقابلات والظهورات المتقطعة . وهي وإن كانت استثنائية من الحال الاعتيادي للمهدي (ع) إلا أنها تتضمن – على أي حال – تطبيقاً للحكم الإسلامي وإنقاذاً لبلاد الإسلام من عدد من المظالم التي تقع فيها . فلماذا لم يحدث ذلك واقتصرت المقابلات على قليل من الموارد نسبياً .
وهذا السؤال لا نجد له جواباً بناء على صحة الأطروحة الأولى ، لعدم تعرض الإمام المهدي (ع) لأي خطر، باعتبار إمكان اختفائه في اللحظة التي يشاء . ومعه يكون تطبيق الحكم الشرعي ممكناً بالنسبة إليه ، فيكون واجباً عليه . على حين لم يحدث ذلك بالكثرة المطلوبة جزماً ، وإلا لاشتهر أمره وشاع . وهذا بنفسه يدل على بطلان هذه الأطروحة ، إذ عدم قيام الإمام المهدي (ع) بذلك يدل على عدم إذن فالقول بصحتها مستلزم للقول بتقصير الإمام المهدي (ع) في تطبيق أحكامه . وهو واضح البطلان ، إذن فهذه الأطروحة باطلة .
وهناك مناقشات وجدل ، يعود إلى هذا الأمر يحسن عدم الإطالة في ذكره .
وأما بناء على صحة الأطروحة الثانية ، كما هو الصحيح ... فهذا الاحتمال الذي كنا نناقشه ، وهو إمكان الإكثار من الظهورات والمقابلات يكون واضح الفساد ، بل هو منتف موضوعاً . لأن تعدد الظهور بكثرة يؤدي إلى تعرف الكثيرين على حقيقته وانكشاف أمره ، ومن ثم يكون منافياً مغ غيبته وقد عرفنا أن كل أمر مناف للغيبة لا يمكن حدوثه ، قبل تحقق شرائط اليوم الموعود .
وقد يخطر في الذهن : بأن تخطيطاً دقيقاً يمكن أن يقوم به المهدي (ع) في كل مقابلة ، كفيل بعدم انكشاف أمره ، وجوابه : بأن كثرة الظلم وتعدد حاجات الناس وضورواتهم ، يوجب كثرة الظهور وكثرته تكون موجبة لإلفات النظر إليه بنحو لا يفيد معه تخطيط دقيق .

صفحة ( 48)
كما قد يخطر في الذهن : بأن المهدي يمكنه إخفاء شخصه بالمعجزة في أوقات الخطر . إذن فليظهر للعمل موقتاً ، ثم فليختف متى استلزمت المصلحة ضرورة الاختفاء .
وهذه الفكرة لها عدة أجوبة أهمها أمران :
الأمر الأول :
إن معنى ذلك توقف تنفيذ الأحكام الشرعية على المعجزة . لأن تنفيذه من قبل المهدي (ع) مسلتزم عادة لوقوعه في الخطر، نتيجة لانحراف المجتمع ، فيكون مستلزماً لاختفائه الإعجازي . ونحن نعلم ، بحسب القواعد الإسلامية، إن كل حكم شرعي إذا توقف على المعجزة لم يكن تنفيذه واجباً ، إلا ما يمت إلى أصل الإسلام بصلة ، كإثبات النبوة أو الإمامة أو إقامة دولة الحق . ومن الواضح أن الحكم الشرعي بوجوب إغاثة المضطر – مثلاً – لا يمت إلى أهل الإسلام بصلة ، فلا يكون واجباً .
الأمر الثاني :
أنه لو تعددت ظهورات المهدي (ع) فسوف يعرفه الكثيرون بمجرد رؤيته ، فيلزمه الاختفاء قبل أن تسنح له فرصة العمل . وهذا معناه أن كثرة الظهور في أي زمان تمنع عن مواصلة أي شكل من أشكال العمل .
وعلى أي حال ، فالعمل المتصور للإمام المهدي (ع) بناء على ما هو الصحيح من صحة الأطروحة الثانية، على قسمين : عمل يقوم به بصفته الحقيقية ، بحيث يمكن للفرد نسبته إليه ولو بعد انتهاء العمل . وعمل يقوم به حال كونه مجهول الحقيقة ، يعيش في المجتمع كفرد عادي ، بشخصية ثانوية ، في اسم آخر وحرفة ومكان غير ملفت لأي نظر .
أما العمل بصفته الحقيقية ، في تنفيذ ما يمكنه تنفيذ من الأقسام السابقة للتكاليف الإسلامية ، فحاله هو ما سبق أن قلناه قبل أسطر . وقد رأينا أنه من غير المحتمل أن يكون المهدي (ع) شرعاً مكلفاً بذلك ، لتعذر العمل عليه بهذه الصفة ، طبقاً لكلتا الأطروحتين .

صفحة ( 49)
لا يبقى – بعدها – إلا الأعمال التي أعربت عنها أخبار المشاهدة في الغيبة الكبرى ، مما يمت إلى القسمين الأخيرين من التكاليف بصلة ، على ما سنوضح عند دراسة المقابلات في مستقبل هذا التاريخ . فإن هذا العدد من المقابلات لا ينافي غرضه ولا يخل بغيبته .
وأما عمله بصفته فرداً اعتيادياً في المجتمع ، فهذا ما لا دليل على نفيه بحال ، بل استطعنا الاستدلال عليه، كما سبق ، حسبنا من ذلك إمكان العمل بالنسبة إليه ، وعدم منافاته مع غيبته وخفاء عنوانه بحال ، فيكون واجباً عليه، كأي فرد آخر من المسلمين يجب عليه أن يؤدي أي عمل ممكن في مصلحة الإسلام . وهو أعلى وأولى من يلتزم بإطاعة أحكام الإسلام .
ومن هنا لا يمكننا أن نتصوره عليه السلام إلا قائماً بواجبه في أي قسم من الأقسام السابقة اقتضت المصلحة في تنفيذه . كهداية شخص أو جماعة من الكفر إلى الإسلام أو من الانحراف إلى الوعي أو من الظلم إلى الاعتدال ، أو جعل الموانع ضد الظلم القائم في المجتمع ، في تأثيره على الإسلام والمسلمين عامة وضد قواعده العبية خاصة . إلى غير ذلك ، وما أدرانا كيف سيصبح حال المجتمع المسلم لو سحب الإمام (ع) لطفه وكف أعماله . وإلى أي درجة من الضلال والظلم يمكن أن يبلغ .
على أننا نحتمل في كل عمل خيري عام أو سنة اجتماعية حسنة أو فكرة إسلامية جديدة ، أو نحو ذلك من الأمور ... نحتمل أن يكون وراءها أصبع مخلص متحرك من قبل الإمام المهدي (ع) . وأنه هو الذي زرع بذرته الأولى في صدر أو عمل أحد الأشخاص أو الجماعات ... بحيث أنتجت أكلها في كل حين بإذن ربها . وهذا الاحتمال لا نافي له، بتقدير صدق أطروحة خفاء العنوان . ومجرد الاحتمال يكفينا بهذا الصدد ، بصفته أطروحة محتملة تنسجم مع الأدلة العامة والخاصة ، كما ذكرنا في المقدمة .
وهذا هو المراد الحقيقي الواعي من النصوص الواردة عن المهدي (ع) نفسه ، والتي تثبت قيامه بالعمل النافع بوضوح .

صفحة ( 50)
فمن ذلك قوله المشهور: وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي ، فكالانتفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار السحاب(1). وأضاف عليه السلام : وأني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء .
فالسحاب كناية عن خفاء العنوان . والشمس كناية عن التأثير النافع المنتج في المجتمع . بعد وضوح أن العمل الذي يمكن للمهدي (ع) تنفيذه مع جهل الناس بحقيقته وعنوانه – أي في غيبته – ، أقل بكثير مما يستطيع القيام به حال ظهوره وإعلان أمره .
وهذا الفهم هو المعين لهذا الحديث الشريف ، بناء على أطروحة خفاء العنوان . لا ما ذكروه(2) من التفسيرات التي يرجع بعضها إلى وجود تشريفي فلسفي للإمام (ع) ، وبعضها إلى أنحاء تقديريه من النفس. وإنما ذكر علماؤنا الأسبقون إنما من باب "ضيق الخناق" وعدم الالتفات إلى هذا الفهم الواعي .
نعم ، يتعين المصير إلى تلك التفسيرات بناء على أطروحة خفاء الشخص . حيث يتعذر العمل على المهدي (ع) إلا بالمقدار القليل الذي تدل عليه أخبار المشاهدة – كما عرفنا – ، مما لا يكاد يكفي أن يكون نفعاً عاماً مشابهاً لنفع الشمس وإن غيبها السحاب . فلا بد – والحال هذه – من الأخذ في فهم النص بتلك التفسيرات . ولكننا حيث قلنا ببطلان هذه الأطروحة ، يتعين أن نأخذ بفهمنا الواعي لهذا الحديث .
ومن ذلك : ما روي عن المهدي (ع) مخاطباً لقواعدة الشعبية : أنّا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم . ولولا ذلك لنزل بكم الأواء واصطلمكم الأعداء . فاتقوا الله جل جلاله . وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم ، يهلك فيها من هم أجله ، ويحمى عنها من أدرك أمله(3) .
(1) الاحتجاج ، جـ 2 ، ص 284 وغيرها . (2) انظرها في بيان مفصل لصاحب البحار في جـ 13 ، ص 129 .
(3) الاحتجاج ، جـ 2 ، ص 323 .

صفحة ( 51)
ونحن نعلم أن وقوفه (ع) ضد الأعداء ونزول الأواء – وهي الشدائد – ، لا يكون إلا بالعمل المثمر والجهاد الحقيقي على الصعيدين العام والخاص . وخاصة ، وهو يأمرنا بمظاهرته أي معاونته وموافقته على إخراجنا من الفتنة والنجاة من الهلكة . فإن على كل فرد مسؤولية تامة في ذلك، ولا تنحصر المسؤولية بالقائد ، كما هو واضح ، بل أن شعوره بالمسؤولية لا يكاد يكون مثمراً من دون شعور شعبه ورعيته بمسؤوليتهم تجاه قائدهم ومبدئهم أيضاً .
إذن ، فهو عليه السلام يحمل هم شعبه ومواليه ، يتذكرهم دائماً ويعمل على حفظهم ودرء المخاطر عنهم باستمرار، بمقدار ما يمكنه أن يؤديه من عمل ، تماماً كما عرفنا عن آبائه عليهم السلام ، وكما عرفناه في خلال غيبته الصغرى . غاية الفرق أن تلك الأعمال كانت منه ومن آبائه (ع) بالصفة الحقيقية لهم . وأما عمله خلال هذه الفترة، فليست بهذه الصفة ، وإنما بصفته فرداً اعتيادياً في المجتمع .
ولكن الإمام المهدي (ع) يتوخى في موارد عمله وجود شرطين أساسيين ، إن اجتمعا كان في إمكانه أن يتصدى للعمل ، وإن تخلف أحدهما ترك العمل لا محالة وأبقى الواقع على واقعه .
الشرط الأول :
أن لا يؤدي به عمله إلى الكشاف أمره وانتفاء غيبته . إذ من الواضح أن المهدي (ع) حين يقوم بالأعمال العامة الإسلامية ، بصفته فرداً عادياً في المجتمع ، يمكنه أن يستمر بها إلى حد معين ليس بالقليل . ولكنه لو لمع اسمه واشتهر صيته ، بـِ "شخصيته الثانوية" لكان هناك احتمال كبير في انكشاف حقيقته وافتضاح سره . لا أقل من أن ينتبه الناس إلى غموض نسبه وجهالة أصله ، فيوصلوا بالفحص والسؤال إلى حقيقته، أو يحتملوا ذلك على الأقل ، وهو ما لا يريده الله تعالى أن يكون .
إذن فعمل المهدي (ع) لا بد أن يقتصر على الحدود التي لا تؤدي إلى انكشاف أمره ، فيدقق في ذلك ويخطط له ، وهو الخبير الألمعي ويحسب لكل عمل حسابه . وأي عمل علم أن التدخل فيه يوجب الانكشاف انسحب عنه ، مهما ترتبت عليه من نتائج ، لأن انحفاظ سره وذخره لليوم الموعود ، أهم من جميع ما يتركه من أعمال .

صفحة ( 52)
ولكن هذا لا ينافي تأثيره في الأعمال الإسلامية الخيرة التي نراها سائدة في المجتمع . وذلك لإمكان أن يكون هو المؤثر في تأسيسها حال صغرها وضآلة شأنها ، وقد أودعها إلى المخلصين الذين يأخذون بها ويذكون أوراها ، بدون أن يلتفتوا أو يلتفت إلى حقيقة عمله ، بقليل ولا بكثير .
الشرط الثاني :
أن لا يؤدي عمله إلى التخلف والقصور في تربية الأمة ، أو اختلال شرائط يوم الظهور الموعود .
بيان ذلك : أننا أشرنا أن ليوم الظهور الموعود شرائط سوف نتعرض لها تفصيلاً في مستقبل هذا التاريخ . ولكل شرط من تلك الشروط أسبابه وعلله . تلك الأسباب التي تتولد وتنشأ في عصر ما قبل الظهور . حتى ما إذا آتت أكلها وأثرت تأثيرها بتحقيق تلك الشروط وإنجازها ، كان يوم الظهور قد آن أوانه وتحققت أركانه .
والمهدي عليه السلام ، حيث يعلم الشرائط والأسباب ، مكلف – على الأقل – بحماية تلك الأسباب عن التخلف أو الانحراف ، لئلا يتأخر تأثيرها أو ينخفض عما هو المطلوب إنتاجها . إن لم يكن مكلفاً بإذكاء أوراها والسير الحثيث في تقدم تأثيرها .
ومن أهم شرائط اليوم الموعود : أن تكون الأمة ساعة الظهور على مستوى عال من الشعور بالمسؤولية الإسلامية ، والاستعداد للتضحية في سبيل الله عز وجل . أو على الأقل ، أن يكون فيها العدد الكافي ممن يحمل هذا الشعور ليكون هو الجندي الصالح الذي يضرب بين يدي المهدي (ع) ضد الكفر والانحراف ، ويبني بساعده المفتول الغد الإسلامي المشرق . ويكون الجيش المكون من مثل هذا الشخص هو الجيش الرائد الواعي الذي يملأ الأرض بقيادة المهدي (ع) قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .
وإذا كان ذلك من الشرائط ، فلا بد من توفر أسبابه في زمن ما قبل الظهور ، في عصر الغيبة الكبرى ، والمحافظة على هذه الأسباب .

صفحة ( 53)
وإن السبب الرئيسي الكبير لتولد الوعي والشعور بالمسؤولية الإسلامية والإقدام على التصحية لدى الأمة ، هو مرورها بعدد مهم من التجارب القاسية والظروف الصعبة وإحساسها بالظلم والتعسف ردحاً كبيراً من الزمن ... حتى تستطيع أن تفهم نفسها وأن تشخص واقعها وتشعر بمسؤوليتها . فإن هذه الصعوبات كالمبرد الذي يجلو الذهب ويجعل السكين نافذاً . فإن الأمة – في مثل ذلك – لا تخلد إلى الهدوء والسكون ، بل تضطر إلى التفكير بأمرها وبلورة فكرتها وتشخيص آلامها وآمالها وتشعر بنحو وجداني عميق بسهولة التضحية في سبيل الأهداف الكبيرة ووجوبها إذا لزم الأمر ونادى منادي الجهاد .
وتلك الأمة الواعية هي التي تستطيع أن تضرب قدماً بين يدي الإمام المهدي (ع) وأن تؤسس العدل المنتظر في اليوم الموعود . دون الأمة المنحرفة المتداعية ، أو الأمة المنعزلة المتحنثة . وسيأتي لذلك إيضاحات عديدة وسنسمع له شواهد كثيرة من الكتاب والسنة .
فإذا كان مرور الأمة بظروف الظلم والتعسف ضرورياً لتحقيق شرط اليوم الموعود ، ومثل هذا الشرط يجب رعايته والمحافظة عليه ...إذن فالمهدي (ع) بالرغم من أنه يحس بالأسى لمرور شعبه وقواعده بمثل هذه الظروف القاسية،إلا أنه لا يتصدى لإزالتها ولا يعمل على تغييرها، تقديماً لمصلحة اليوم الموعود على أهل العزم هذا اليوم الموجود.
وأما ما لا يكون من الظلم دخيلاً في تحقيق ذلك الشرط ، وكان الشرط الأول لعمل المهدي (ع) متوفراً فيه أيضاً ، فإن الإمام المهدي (ع) يتدخل لإزالته ويعمل على رفعه ، بموجب التكليف الشرعي الإسلامي المتوجه إليه .
ونحن – الذين لا نعيش نظر المهدي (ع) وأهدافه – نكاد نكون في جهل مطبق ، من حيث تشخيص أن هذا الظلم هل له دخل في تحقيق شرط الظهور أو لا . ما عدا بعض موارد التخمين . فإنه يحتاج إلى نظر بعيد يمتد خلال السنين إلى يوم الظهور . وهذا النظر منعدم لدى أي فرد في العالم ما عدا المهدي (ع) نفسه . فيعود تشخيص ذلك إليه ، بما وهبه الله تعالى من ملكات وقابليات على تشخيص الداء والقيادة نحو الدواء.

صفحة ( 54)
عدة نقاط :
أود الإشارة في نهاية هذا الفصل إلى عدة نقاط :
النقطة الأولى :
إن ما ذكرناه قبل لحظة ، من وجود بعض أشكال الظلم منتج لشرط يوم الظهور ، وهو وعي الأمة وشعورها بالمسؤولية ... وأن المهدي (ع) لا يقف حائلاً ضد هذا الظلم ولا يعمل على رفعه ... لا يمكن أن ندعي وجوب الاقتداء بالمهدي (ع) في ذلك أو أن لنا به أسوة حسنة في ذلك ، فيجب إهما الظلم يفتك بالأمة بدون أن نحاول إصلاحه أو نحول دون تأثيره . لا يمكن أن يكون هذا صحيحاً ، للفرق بين تكليفنا الشرعي وتكليفه وبين مسؤوليتنا ومسؤوليته .
بيان ذلك : أن كلا الشرطين اللذين عرفناهما لعمل المهدي (ع) غير موجودين فينا ، فيكون تكليفنا الإسلامي أوسع بكثير من هذه الجهة من تكليف الإمام المهدي (ع) خلال غيبته .
أما الشرط الأول : وهو عدم انتفاء الغيبة والمحافظة على ستر العنوان ... فمن الواضح عدم توفره فينا . بل هو من مختصاته عليه السلام .
وأما الشرط الثاني : وهو ألا يحول العمل ضد الظلم المؤثر في إيجاد شرط الظهور ... فمن الواضح أن المهدي (ع) إذا حال دون تحقق هذا الظلم ، فسوف يحول دون حدوث الوعي عند الأمة ، فيبقى شعورها متبلداً وتربيتها قاصرة، وبالتالي يكون الشرط المطلوب متعذر الوجود .
وأما نحن إذ نشعر بالظلم فنكافح ضده أو نخطط لأجل دحره ودفعه ، لا نكون قد حلنا دون وعي الأمة ، بل أن كفاح الأمة نفسه وجهادها ضد مشاكلها وآلامها من أهم العناصر التي تنظم إلى الشعور بالظلم فتحدث الوعي لدى الأمة يكمل عندها الشعور بالمسؤولية . ذلك العمل الذي يعطي دروساً في التضحية وحنكة في التدبير الاجتماعي ، يؤهل الأمة شيئاً فشيئاً إلى تحقيق الشرط المأمول .

صفحة ( 55)
ومعه يكون الكفاح ضد الظلم ، بهذا الاعتبار ، فضلاً عن الاعتبارات الأخرى ، لازماً ومطلوباً في الإسلام من كل المسلمين ما عدا المهدي (ع) . نعم ، ستكون الأمة وقائدها متضامنة ضد كل أنواع الظلم بعد أن يحصل الشرط المطلوب ، ويبقى الظلم المتأخر مستأنفاً لا حاجة إليه . فيقوم عليه الإمام المهدي (ع) بالسلاح لإزالته من الوجود. وذلك هو يوم الظهور .
النقطة الثانية :
إن عمل المهدي (ع) في المجتمع ، في حدود ما تقتضيه أطروحة خفاء العنوان ، يمكن أن يتصف بعدة صفات :
فعمله نافذ وناجح ومؤثر دائماً ، وإنما الإخفاق إذا حصل فإنما يحصل نتيجة لقصور أو تقصير غيره في العمل . فأننا لم نفهم أهمية عمله من كونه عضواً في جمعية خيرية مثلاً أو متولياً لوقف عام مثلاً ، وإن كان ذلك ممكناً ومهماً ... إلا أن الأهم من ذلك هو كونه الرائد المؤسس لأعمال الخير العامة ، ودفع الشر والظلم – مما لا يكون مؤثراً في شرط اليوم الموعود – . بمعنى أنه عليه السلام ، بعد أن يعرف أهمية العمل الخير أو أخطار العمل الظالم بالنسبة للمجتمع المسلم ، فأنه يتسبب إلى إيجاد ما هو خير ورفع ما هو ظلم .
وهو بذلك يستعمل حنكته وفراسته لتوخي أقرب الطرق وأصلحها وأكبرها تأثيراً . وقد يسبق عمله وجود العمل الظالم نفسه . كالذي رأيناه من المهدي (ع) نفسه في غيبته الصغرى أكثر من مرة ، حيث سمعناه ينهي وكلاءه عن قبض أي شيء من الأموال ، فامتثلوا أمره من دون أن يعلموا السبب . ثم اتضح أن السلطات قد أمرت بدس الأموال إلى الوكلاء ، فمن قبض منهم مالاً قبضوا عليه(1) . وبذلك فشل هذا المخطط الظالم . ومن يعمل مثل ذلك مرة أو مرات ، يمكنه أن يعمله متى يشاء .
أما لو استلزمت إزالته للظلم ظهوره لبعض الأفراد ، على حقيقته ، فهو مما قد يحصل تبعاً لظروف خاصة وتخطيط خاص ، سوف ندرسه في بعض الفصول المقبلة . وأما إذا لم تتوفر تلك الظروف ترك المهدي (ع) الظلم على حاله، لعدم توفر الشرط الأول من الشرطين السابقين .
(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 603 .

صفحة ( 56)
وعلى أي حال ، فبالنسبة إلى العمل الخيِّر الصالح ، يستطيع المهدي أن يقنع فرداً أو جماعة للقيام به ، أو يشجع أناساً مندفعين تلقائياً للقيام بمثله ، ويؤيدهم التأييد الكافي ، ويحاول أن يرفع الموانع عن تقدم عملهم وازدهاره . كل ذلك من دون أن يفترض عضواً فعلياً مشاركاً في شيء من الأعمال . ومعه تكون الأعمال بطبيعتها ، بالرغم مما أوجد لها المهدي (ع) من فرص النجاح ، قابلة للإخفاق أو الضيق تبعاً لقصور أصحابها القائمين بها أو تقصيرهم نفسياً أو عملياً .
وأما بالنسبة إلى العمل الظالم ، فهو يتسبب إلى رفعه أو التقليل من تأثيره ، إما بمحاولة إقناع الفاعل على الارتداع عنه أو الضغط عليه أو إحراج مصالحه بنحو يصغر معه عمله ويضيق أو بنحو ينعدم تأثيره أساساً . أو بإذكاء أوار الثورة أو الاحتجاج من قبل الآخرين .
النقطة الثالثة :
هناك كلام لرونلدسن حول الإمام المهدي (ع) ، فيما يخص ما نحن فيه من الموضوع . يتبنى المهدي فيه بعدم الالتفات إلى أصحابه وقواعده الشعبية ، وعدم رفع الظلم عنهم . وهو بذلك يريد أن يستنتج عدم وجوده ، إذ لو كان موجوداً فهو شخص يشعر بالمسؤولية والعطف تجاه أصحابه ، فهو لا محالة رافع للظلم عنهم أو مشاركهم في العمل ضده . مع أنه لم يعمل ذلك ، بالرغم من أن المظالم في التاريخ كثيرة وشديدة ، إذن فهو غير موجود .
وهو إن لم يصرح بهذه النتيجة ، ولكنه يوحي بها إيحاء واضحاً ، حين يقول : "وفي القرن التالي لغيبة الإمام استلم البويهيون زمام السلطة الزمنية فبذلوا جهوداً كبيرة لتوحيد الطائفة الشيعية وتقويتها ، كبناء مشاهدها وجمع أحاديثها وتشجيع علمائها ومجتهديها . ومع ذلك فلم يظهر الإمام المنتظر في هذا القرن الذي كانت الطائفة الشيعية تتمتع فيه بحسن الحال" . ومرّ قرن آخر دالت فيه دولة حماة الشيعة من البويهيين ولكن الإمام بقي في (غيبته الكبرى) .

صفحة ( 57)
ومرّ قرن ثالث يمتاز بالظلم والثورات وتحكم المماليك . ولكن الإمام الذي كانوا يرتجون ظهوره لم يظهر .
وجاء دور الحروب الصليبية التي اشترك (آل البيت) فيها دون أن يكون لهم إمام . فمن الجانب الإسلامي ، كانت السلطة لإعلان الجهاد تنحصر بيد بني العباس والفاطميين المارقين في مقاومة الجيوش الغازية للشعوب المسيحية بالاسم في أوروبا ، ولكن الإمام أخرّ ظهوره .
وبعد مرور أربعة قرون على وفاة آخر الوكلاء في القرن الثالث عشر – يعني الميلادي – ادتاح الغزاة المغول بلاد إيران يقتلون ويهدمون بقساوة لا مثيل لها . وبالرغم من التخريب والآلام فإن (صاحب الزمان) المنتظر بفارغ الصبر لم يظهر .
وحتى في ابتداء القرن السادس على زمن شيوع أذربيجان والدولة الصفوية الجديدة ، لم يتصل الإمام الغائب بشيعته إلا بالطيف ! فكان يظهر لهؤلاء الملوك ، كما يدعون !!(1)
وبالرغم من أن في هذا الكلام عدة نقاط محتاجة لإعادة النظر ، إلا أن المهم الآن مناقشة الإشكال الرئيسي الذي يثيره ، وهو استبعاد وجود الإمام من عدم ظهوره عند الحاجة لأجل رفع الظلم عن قواعده الشعبية خاصة ، والمسلمين عامة .
وقد اتضح الجواب على ذلك مما سبق أن قلناه متمثلاً في عدة وجوه :
أولاً : أننا يجب أن لانتوقع من الإمام المهدي (ع) الظهور الكامل ، تحت أي ظرف من الظروف ، باعتباره مذخوراً لنشر العدل الكامل في العالم كله ، لا لرفع المظالم الوقتية أو الاتصال بأشخاص معينين . وقد عرفنا أن الإسراع بالظهور قبل أوانه يوجب جزماً فشل التخطيط الإلهي لليوم الموعود . لأن نجاحه منوط بشروط معينة وظروف خاصة لا تتوفر قبل اليوم الموعود جزماً . وقد عرفنا أن كل ما أعاق عن نجاحه لا يمكن وجوده بحسب إرادة الله تعالى وإرادة المهدي (ع) نفسه ، مهما كان الظرف مهماً وصعباً .

صفحة ( 58)
ثانياً : أننا نحتمل – على الأقل – أن المهدي (ع) يرى أن بعض الظلم الذي كان ساري المفعول خلال التاريخ ، كالحروب الصليبية مثلاً ، غير قابلة للإزالة من قبله حال الغيبة بحال . ولا ينفع التخطيط السري أو العمل الاعتيادي، بصفته فرداً عادياً ، في إزالتها ... لقوة تأثيرها وضرواة اندفاعها . ومعه يصبح الإمام المهدي (ع) حال غيبته عاجزاً عن رفع هذا الظلم ، فيكون معذوراً عن عدم التصدي لرفعه طبقاً للقواعد الإسلامية ولوظيفته الواعية الصحيحة .
ثالثاً : إن جملة من موارد الظلم الساري في المجتمع ، لا يتوفر فيه الشرط الأول من الشرطين السابقين اللذين ذكرناهما لعمل المهدي (ع) ، فلا يعمل المهدي لإزالته بطبيعة الحال . وهو ما إذا كان العمل ملازماً لانكشاف أمره وانتفاء غيبته .
رابعاً : إن جملة من موارد الظلم ، لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الرطين السابقين اللذين ذكرناهما لعمل المهدي (ع) ، فلا يعمل المهدي لإزالته بطبيعة الحال . وهو ما إذا كان العمل ملازماً لانكشاف أمره وانتفاء غيبته .
رابعاً : إن جملة من موارد الظلم ، لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الرطين السابقين ، باعتبار أو وجوده سبب لانتشار الوعي في الأمة وشعورها بالمسؤولية الذي هو أحد الشروط الكبرى ليوم الظهور . وقد قلنا بأن مثل هذا الظلم وإن وجب على الأمة الكفاح لإزالته ، إلا أن الإمام المهدي (ع) لا يتسبب لرفعه ، لأن في رفعه إزالة للشرط الأساسي لليوم الموعود ، وهو ما لا يمكن تحققه في نظر الإسلام .
إذن فسائر أنحاء الظلم الساري المفعول في التاريخ لا محالة مندرج تحت أحد هذه الأقسام ، فإذا كان المهدي (ع) قد عمل لإزالتها فقد خالف وظيفته الإسلامية ومسؤوليته الحقيقية ، ولا أقل من احتمال ذلك ، لأجل المهدي (ع) على الصحة .
إذن فليس هناك أي تلازم بين وجود المهدي وبين وقوفه ضد هذه الأنحاء من الظلم والشرور ، حتى يمكن لرونلدسن أن يستنتج من عدم وقوفه ضد الظلم ، عدم وجوده .
وأما الأنحاء الأخرى من الظلم ، فقد قلنا بأن تكليفه الشرعي ووظيفته الإسلامية ، تقتضي وقوفه ضده وحيلولته دونه بصفته فرداً عادياً في المجتمع ، كما أوضحناه . إذن فهو يقف ضد الظلم في حدود الشروط الخاصة الإسلامية، كيف وهو على طول الخط يمثل المعارضة الصامدة ضد الظلم والطغيان .

صفحة ( 59)
الفصل الثالث
في الحياة الخاصة للمهدي (ع)
وكل ما يعود إلى شخصه عليه السلام من الأمور حال غيبته الكبرى
ويمكن الكلام عن ذلك في ضمن عدة أمور :
الأمر الأول :
هل الإمام المهدي (ع) متزوج وله ذرية أم لا .
ويمكن بيان ذلك على مستويين ، باعتبار ما تقتضيه القواعد العامة ، أولاً ، وما تقتضيه الأخبار الخاصة ثانياً .
المستوى الأول : فيما تقتضيه القواعد العامة المتوفرة لدينا .
وهذا مما يختلف حاله على اختلاف الأطروحتين الرئيسيتين اللتين عرضناهما فيما سبق .
أما الأطروحة الأولى : أطروحة خفاء الشخص ، فهي – بغض النظر عن الأخبار الخاصة الآتية – تقتضي أن لا يكون المهدي متزوجاً ، وأن يبقى غير متزوج طيلة غيبته . ولا غرابة في ذلك ، فإن كل ما ينافي غيبته ويعرضه للخطر يكون وجوده غير جائز ، فيكون زواجه غير جائز ، لوضوح منافاته مع غيبته ولزومه لانكشاف أمره . إذ مع خفاء شخصه لا يمكنه الزواج بطبيعة الحال عادة . أما مع ظهوره وانكشاف أمره ، فهو المحذور الذي يجب تجنبه ويخل بالغرض الأسمى من وجوده .

صفحة ( 61)
وأما افتراض أنه ينكشف لزوجته فقط ، بحيث تراه وتخالطة من دون كل الناس ، فهو وإن كان ممكناً عقلاً، إلا إنه بعيداً كل البعد عن التطبيق العملي بحيث نقطع بعدم إمكانه . فإن هذه الزوجة يجب أن تكون قبل زاوجها من خاصة الخاصة المأمونين الموثوقين إلى أعلى الدرجات ، بحيث لا يكون في مقابلتها إياه واطلاعها على حقيقته أي خطر . ومثل هذه المرأة تكاد تكون منعدمة بين النساء ، إن لم تكون معدومة فعلاً ... فضلاً عن أن يجد في كل جيل امرأة من هذا القبيل .
إذن فبقاؤه طيلة غيبته أو في الأعم الأغلب منها بدون زواج ، ضروري لحفظه وسلامته إلى يوم ظهوره الموعود، فيكون ذلك متعيناً عليه .. لو أخذنا بالأطروحة الأولى .
وأما على الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، فكل هذا الكلام الذي رأيناه يكون بدون موضوع . فإن المهدي (ع) وإن كان من المتعذر عليه إيجاد الزواج بصفته الحقيقية ، لما قلناه من عدم وجود المرأة الخاصة المأمونة بالنحو المطلوب . ولكن زواجه بصفته فردا ًعادياً في المجتمع ، أو بشخصيته الثانية ، ممكن ومن أيسر الأمور ، بحيث لا تطلع الزوجة على حقيقته طول عمرها . فإن بدا التشكيك يغزو ذهن المرأة في بعض تصرفاته أو عدم ظهور الكبر عليه بمرور الزمان ... أمكن للمهدي (ع) أن يخطط تخطيطاً بسيطاً لطلاقها وإبعاجها عن نفسه ، أو مغادرة المدينة التي كان فيها إلى مكانٍ آخر ، حيث يعيش ردحاً آخر من الزمن ، وقد يتزوج مرة أخرى .. وهكذا .
وإذا أمكن زواجه ، أمكن القول بتحققه ، وإن الإمام المهدي عليه السلام متزوج في غيبته الكبرى بالفعل . وذلك لأن فيه تطبيقاً للسنة المؤكدة في الإسلام والأوامر الكثيرة بالزواج والحث العظيم عليه والنهي عن تركه ، والمهدي أولى من يتبع السنة الإسلامية . وبخاصة إذا قلنا بأن المعصوم لا يترك المستحب ولا يفعل المكروه مهما أمكن ، والتزمنا بعصمة المهدي (ع) كما هو الصحيح . فيتعين أن يكون متزوجاً ، بعد أن توصلنا إلى إمكان زواجه وعدم منافاته مع احتجابه .
وإذا سرنا مع هذا التصور ، أمكن أن نتصور له في كل جيل ، أو في أكثر الأجيال ذرية متجددة تتكاثر بمرور الزمن، ولكنها تجهل بالمرة بأنها من نسل الإمام المهدي (ع) ، لأن لا يكشف حقيقته أمام زوجته وأولاده الصلبيين، فكيف بالأجيال المتأخرة من ذريته .

صفحة ( 62)
إلا أن أمامنا شيئاً واحداً يحول بيننا وين التوسع في هذا الافتراض ، إن لم يكن برهاناً على انتفاء الذرية أصلاً . وهو : إن وجود الذرية ملازم عادة لإنكشاف أمره والاطلاع على حقيقته . فإن السنين القليلة بل العشرين والثلاثين منها قد تمضي مع جهل زوجته وأولاده بحقيقته ، كما أنه يمكن التخلص من الزوجة حين يبدو عليها بوادر الالتفات . ولكن كيف يمكن التخلص من الذرية ؟! فإنهم أو بعضهم – على أقل تقدير – يكونون أحرص الناس على مشاهدة أبيهم وملاحقته أينما ذهب . ومعه يكون دائماً تحت رقابتهم ومشاهدتهم . ومن ثم لا يمكنه الحفاظ على سره العميق زماناً مترامياً طويلاً . فإنهم بعد مضي الخمسين أو السبعين عاماً ، سوف يلاحظون بكل وضوع عدم ظهور امارات المشيب والشيخوخة على والدهم ، وأنه بقي شاباً على شكله الأول . ومن ثم يحتملون على الأقل كونه هو المهدي (ع) ، أو أنه فرد شاذ لا بد من الفحص عنه والتأكذ من حقيقته .. وبالفحص ومداومة السؤال ، لا بد أن يتوصلوا إلى الاحتمال على أقل تقدير . وهذا مناف مع غيبته وكتمان أمره . وأما لو بقيت ذريته تراقبه ، ولو بشخصيته الثانية ، عدة أجيال ، فيكون انكشاف أمره بمقدار من الوضوح .
وأما افتراض أنه يعيش مع زوجته وأولاده ، ويظهر عليه المشيب فعلاً ، ثم أنه يختفي ويتحول شكله إلى الشباب تارة أخرى عن طريق المعجزة ، لكي يستأنف حياة زوجية جديدة .. وهكذا .. فهو افتراض عاطل ترد عليه عدة اعتراضات أهمها منافاته مع قانون المعجزات ، فإن زواج المهدي ووجود الذرية لديه لا يمت إلى الهداية الإلهية بصلة ، لكي يمكن أن تقوم المعجزة من أجله .
إذن فلا بد من الالتزام بعدم وجود الذرية للمهدي (ع) بالنحو المنافي لغيبته . أما بانعدام الذرية على الإطلاق ، أو بوجود القليل من الذرية التي تجهل حال نسبها على الإطلاق ، كما يجهله الآخرون ، ولعلنا نصادف بعضاً منهم ، ولكن إثبات نسبه في عداد المستحيل .
فالمتحصل من القواعد العامة ، هو أن المظنون أن يكون الإمام المهدي (ع) متزوجاً بدون ذرية . لا لنقص فيه بل ولا في زوجته ، بل لإشاءة الله تعالى ذلك ، أو تعمد المهدي (ع) له ، احتفاظاً بسره ومحافظة على أمره .

صفحة ( 63)
المستوى الثاني : فيما تدل عليه الأخبار من وجود الزوجة والأولاد للمهدي (ع) . ونحن نواجه بهذا الصدد شكلين أو طائفتين من الأخبار :
الشكل الأول :
الأخبار الدالة على زواجه ووجود الذرية له، بنحو مجمل من حيث كون ذلك حاصلاً في زمان الغيبة أو بعد الظهور، ومن حيث كونه بعنوانه الواقعي أو بشخصيته الثانية . وسنعرف فيما يأتي أنه لا بد من تخصيص هذه الأخبار ، فيما بعد الظهور ، أو في حال الغيبة بشكل لا يكون سبباً لانكشاف أمره وانتفاء غيبته .
الشكل الثاني :
الأخبار الدالة على زواجه ووجود الذرية له فيغيبته الكبرى . وهي ثلاث روايات :
الأولى : ما رواه الحاج النوري قدس سره في النجم الثاقب عن كتاب الغيبة للشيخ الطوس وكتاب الغيبة للنعماني . قال : رويا بطريق معتبر عن المفضل بن عمر ، قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : إن لصاحب هذا الأمر غيبتين ، إحداهما تطول حتى يقول بعضهم : مات . وبعضهم يقول : قتل . وبعضهم يقول : ذهب . فلا يبقى على أمره من أصحابه إلا نفر يسير لا يطلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره ، إلا المولى الذي يلي أمره(1) .
الثانية : رواية كمال الدين الإنباري ، التي ينذكر مضمونها في الأمر الرابع الآتي(2) .
الثالثة : رواية زين الدين المازندراني ، وهي مشابهة للرواية الثانية ، من عدة نواحٍ ، على ما سنرى في الفصل الآتي(3) .
(1) النجم الثاقب ، ص 224 وغيبة الشيخ ، ص 102 . (2) النجم الثاقب ، ص 217 .
(3) المصدر ، ص 284 ، وانظر البحار ص .......

صفحة ( 64)
إلا أن شيئاً من هذه الروايات ، لا يصح الاستدلال به ، بمعنى أنه ، لو تمت من ناحية السند ، لا تكاد تثبت أكثر وأوسع مما اقتضته القواعد العامة التي عرفناها على المستوى الأولي .
أما الرواية الأولى ، فلا تصح لعدة وجوه :
الوجه الأول :
أنه لا دليل على وجود ذكر الولد في هذه الرواية . فإن كلا من الشيخ الطوسي والشيخ النعماني يرويانها بنص واحد، إلا أن الشيخ الطوسي قال : لا يطلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره(1) . والشيخ النعماني روى : من ولي ولا غيره(2) . ومع تهافت نسخ الرواية فيما هو محل الشاهد ، لا يمكن المصير إلى الاستدلال بها .
الوجه الثاني :
أنه على تقدير الاعتراف بوجود كلمة الولد في الرواية ، فإنها لا تكاد تدل على أمر زائد على ما اقتضته القواعد بناء على الأطروحة الثانية ، فإنه يمكن أن يكون للإمام المهدي (ع) ذرية لا تعرف حقيقة أبيها ، بمقدار لا يصل الأمر إلى انكشاف أمره وذيوع سره ، كما سبق أن عرفنا . أو يكون المهدي (ع) قد حصل في بعض الأجيال ، على زوجة موثوقة عرفت حقيقته وصانت سره وسترته عن ذريته .
أما وجود ولد أو ذرية يعاشرونه ويعرفونه ، فهو منفي بنص الرواية ، كما هو منفي بمقتضى القواعد .
ثالثا : أننا نتحمل على الأقل ، أن المراد بقوله : لا يطلع على موضوعه أحد من ولده ولا غيره .. المبالغة في بيان زيادة الخفاء . بمعنى أنه حتى لو كان له ولد أطلع على حقيقته فضلاً عن غير الولد . وهذا بمجرده لا يكون دليلاً على وجود الولد فعلاً ، كما هو واضح . واحتمال هذا المعنى يكفي لإسقاط الاستدلال بالرواية ، فإنه إذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال .
(1) غيبة الشيخ ، ص 102 . (2) غيبة النعماني ، ص 89 .

صفحة ( 65)
وأما الروايتان الأخيرتان ، التي سنسمعهما ، فالمقدار المشترك من مدلوليهما ، هو أن المهدي (ع) ساكن خلال غيبته الكبرى في بعض الجزر المجهولة من البحر الأبيض المتوسط .. متزوج وله ذرية . وقد أسس هناك مجتمعاً إسلامياً نموذجياً مكوناً من أولاده والأخيار من أتباعهم وأصحابهم . وهو يعيش في ذلك المجتمع محتجباً ، في الوقت الذي يتولى الرئاسة العامة أولاده وذريته .
وسيأتي التعرض إلى تفاصيل المضمون بمقدار الحاجة ، مع إيضاح نقاط الضعف فيه . ويكفينا في حدود محل الاستدلال المناقشة من ناحيتين :
أولاً : إن كلا الروايتين لا تكادان تصحان أساساً ، لابتنائهما على الأساس الذي تقوم عليه الأطروحة الأولى، كما سنوضحه عند التعرض إلى تفاصيلها . وهو أساس سبق أن أقمنا البرهان على بطلانه .
ثانياً : أنه على تقدير صحتهما ، فهما لا يدلان على شيء زائد مما اقتضته القواعد العامة . فإن غاية ما تدلان عليه هو افتراض أن الإمام المهدي (ع) قد وجد في بعض الأجيال إمرأة صالحة موثوقة عرفته وسترت أمره وحجبته عن ذريته . وقد علم ذريته بانتسابهم إليه من دون أن يروه أو يعرفوا مكانه . وبالجملة يكفي في صدق هاتين الروايتين وقوع الزواج للمهدي (ع) مرة واحدة خلال الأجيال ، وهو مما لم تنفه القواعد العامة ، كما هو معلوم .
إذن فلم نجد من الروايات ، ما يصلح للاستدلال به على مضمون زائد على ما عرفناه في القواعد العامة .
الأمر الثاني :
في مكان المهدي (ع) في غيبته الكبرى .
سبق أن سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى(1) ، أن المهدي (ع) قال لمحمد بن إبراهيم بن مهزيار حين قابله: يا ابن المازيار ! أبي أبو محمد عهد إلي أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم . وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا وعرها ، ومن البلاد إلا عفرها ... الخ كلامه.
(1) انظر ص 582 وغيرها .

صفحة ( 66)
وهو دال على تعيين مكان المهدي (ع) في البراري والقفار النائية .. سواء في ذلك عصر غيبته الصغرى ، وعصر غيبته الكبرى . وسواء أخذنا بأطروحة خفاء الشخص أو أطروحة خفاء العنوان . فإنه منسجم مع كلتا الأطروحتين.
إلا أننا ذكرنا أن هذا وإن كان محتملاً في نفسه ، إلا أنه مناف مع أعداد من الروايات الدالة على وجوده بكثرة في أماكن أخرى . أهمها روايات المشاهدة في الغيبة الصغرى وأخبار المشاهدة الكبرى .. إلا على بعض الفروض النادرة أو الإعجازية التي نحن في غنى عن افتراضها ، والمهدي (ع) في غنى عن اتخاذها، فإن المعجزة لا تقع إلا عند توقف إقامة الحجة عليها ، كما سبق .
فإذا تجاوزنا هذه الرواية يبقى الكلام في تشخيص مكان المهدي (ع) تارة بحسب القواعد العامة التي تقتضيها الأطروحتان الرئيسيتان ، وأخرى بحسب الأخبار الخاصة التي يمكن الاستدلال بها في هذا الصدد .
أما الأطروحة الأولى : أطروحة خفاء الشخص .. فهي تقتضي الجهل المطبق بمكانه عليه السلام ، إلا ما يكون عند مشاهدته حين تقتضي المصلحة لذلك .
وأما الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، فقد سبق أن أوضحنا إمكان أن يعيش الإمام المهدي (ع) في أي مكان شاء ويذهب إلى أي مكان يريد ، من الحواضر أو البوادي من البر أو البحر أو الجو ، من دون أن يلفت إلى نفسه نظراً أو يكشف سراً . كما اوضحنا أنه لا ينبغي أن نتصور له مكاناً واحداً مستمراً أو غالباً طيلة غيبته ، لأن ذلك ملازم عادة لالتفات الناس إلى حقيقته وانتقاء غيبته .. بل هو – لا محالة – يوزع سكناه بين البلدان ، لكي يبعد عن نفسه الشكوك .
وأما بحسب الروايات الخاصة ، فنواجه منها عدة أخبار :
الأول : خبر المفضل بن عمر ، السابق الذي يقول فيه : لا يطلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره إلا المولى الذي يلي أمره .
الثاني : رواية كمال الدين الإنباري ، التي أشرنا إليها .
الثالث : رواية زين الدين المازندراني ، السابقة .

صفحة ( 67)
وتشترك هاتان الروايتان في بيان أن المهدي (ع) يسكن في بعض الجزر المجهولة في البحر الأبيض المتوسط . وكأن في هذا تطبيقاً لما ورد في رواية ابن مهزيار من أنه لا يسكن في الجبال إلا وعرها ومن البلاد إلا عفرها ، وأن لا يجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم !
وقد سبق أن ذكرنا ، وسيأتي أيضاً ، بأن هاتين الروايتين مبتنيتان على الأساس الذي تبتني عليه الأطروحة الأولى، ومعه تكون باطلة وغير معتبرة جملة وتفصيلاً .
الرابع : ما ورد عن أبي بصير عن الإمام الباقر (ع) إنه قال : لا بد لصاحب هذا الأمر من عزلة ، ولا بد في عزلته من قوة . وما بثلاثين من وحشة . ونعم المنزل طيبة(1) .
ويشترك هذا الخبر مع الخبر الأول في الدلالة على انعزال الإمام المهدي (ع) وبعده عن الناس ، ويتعارضان من حيث أن الأخير يثبت أن جماعة من الناس في كل جيل يعرفون المهدي ويتصلون به ويرفعون عنه الوحشة ، وهذا ما ينفيه الخبر الأول بوضوح حيث يقرر عدم إطلاع أحد على موضعه حتى ولده ، إلا المولى الذي يلي أمره . ويستقل الخبر الأخير على تعيين مكان المهدي (ع) في طيبة ، وهي مدينة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله .
فهذه نقاط ثلاث ، ينبغي أن يقع الكلام عنها ، ويحسن من أجل ضبط السياق ، أن نبدأ بالأخيرة .
النقطة الأولى :
حول ما دل عليه خبر أبي بصير من سكنى المهدي في مدينة الرسول (ص) .
وهذا أمر ينافيه ما ورد في خبر إبن مهزيار من اختصاص مكان المهدي (ع) في البراري والقفار . كما ينافي ما ورد في أخبار المقابلات في الغيبتين الصغرى والكبرى ، كما ذكرنا ، من وجود المهدي (ع) في أماكن أخرى من العالم . ومع هذه المنافاة لا تكاد تكون رواية أبي بصير قابلة للإثبات أو الاستدلال .
(1) غيبة الشيخ الطوسي ، ص 102 .

صفحة ( 68)
ولو غضضنا النظر عن ذلك ، لم نجد أن سكناه المدينة مناف للقواعد العامة التي عرفناها .. سواء أخذنا بأطروحة خفاء الشخص أو بأطروحة خفاء العنوان . أما على أطروحة خفاء الشخص ، فمن الممكن أن نفترض سكناه حال خفائه في المدينة نفسها ، بدون لزوم أي إشكال أو صعوبة .
وأما على أطروحة خفاء العنوان ، فينبغي أن نخص هذه السكنى بما إذا لم تستلزم إنكشاف أمره أو إلتفات الناس إلى سره . لما سبق أن عرفناه من أن يعود إلى سكناها بين جيل وجيل أو نحو ذلك ، بحيث لو راجعنا المعدل العام لزمان الغيبة الكبرى ، رأينا مكانه الأغلب هو المدينة المنورة . وقد سبق أن عرفنا أن مثل هذا الأسلوب في سكنى المدن لا يكون مظنة للإنكشاف .
ولعل هذا الأنسب بحال المهدي (ع) واتجاهه ، من حيث أنه يود مجاورة قبر جده الأعظم رسول الإنسانية (ص) ، والقرب إلى مكان الج ليستنى له القيام به كل عام . وبخاصة وإن أغلب سكان المدينة المنورة في أغلب أجيال التاريخ الإسلامي ، إن لم يكن كلها ، من المنكرين لوجوده أصلاً .. وهو مما يسهل له الحفاظ على خفاء عنوانه ودوام غيبته .
النقطة الثانية :
فيما تختلف فيه الروايتان من المضمون ، حول أن المهدي (ع) هل يعاشر بعض الناس أولاً .
وعند الموازنة بين الأمرين ، لا بد من عرضهما على القواعد العامة اليت عرفناها . وسوف تختلف نتيجة الموازنة طبقاً للأطروحتين الرئيسيتين السابقتين : أما لو أخذنا بأطروحة خفاء الشخص ، فسوف يرجح الأخذ برواية المفضل بن عمر . وإن لم تكن مطابقة لها تماماً لدلالة الرواية على انكشاف المهدي (ع) للمولى الذي يلي أمره ، وهو يُنافي الالتزام الكامل بهذه الأطروحة . وأما لو أخذنا بأطروحة خفاء العنوان، فسوف يرجح الأخذ برواية أبي بصير ، وإن لم تكن مطابقة لها تماماً لدلالة الرواية على انحصار العارفين بالمهدي (ع) والمعاشرين له بثلاثين ، في كل جيل ، بحيث لولاهم لكان في وحدة موحشة .

صفحة ( 69)
وهذا ما يستغنى عن إفتراضه بناء على هذه الأطروحة . إذ يمكن للمهدي (ع) أن يعاشر أي شخص كما عرفنا . نعم، يمكن أن يكون للثلاثين خصيصة الاطلاع على حقيقته ، وهو أمر لطيف ، إلا أنه لا يستلزم عدمهم وجود الوحدة الموحشة على أي حال .
النقطة الثالثة :
فيما تشترك فيه الروايتان من النص على اعتزال المهدي (ع) عن الناس .
وهذا يمكن حمله على أحد وجهين :
الوجه الأول : أن يفسر بالاعتزال النسبي ، يعني إعتزاله بصفته الحقيقية ، وإن كان مرتبطاً بالناس بصفته فرداً عادياً في المجتمع . وهذا الوجه قريب من أطروحة خفاء العنوان . إلا أنه مخالف لكلتا الروايتين في ظاهرهما ، كما يتضح لمن قرأهما .
الوجه الثاني : أن يعترف بعزلته عليه السلام ، بشكل مطلق . وهذا أقرب إلى أطروحة خفاء الشخص ، فإنها تستلزم العزلة المطلقة . ولكنه لا ينافي الأطروحة الأخرى لإمكان أن يرى المهدي (ع) حال انعزاله من دون أن تعرف حقيقته .
إلا إننا عرفنا أنه لا حاجة إلى افتراض مثل هذه العزلة مع خفاء العنوان . إن لم تكن بنفسها ملفته للنظر والتساؤل عن حقيقة هذا الفرد المنعزل وعن سبب انعزاله ، مما يثير حوله الانتباه .
فإذا لم يصح الوجه الأول ، كما لم يصح الوجه الثاني انطلاقاً من أطروحة خفاء العنوان ، الصحيحة ، لم يمكن القول بصحة المضمون المشترك بين الروايتين ، وإن كان مدعماً برواية ابن مهزيار أيضاً .

صفحة ( 70)
الأمر الثالث :
ما ورد من تسمية أولاده وسكنهم وأعمالهم .
تنص رواية الإنباري المشار إليها ، إن للحجة المهدي (ع) عدة أولاد في
الجزر المجهولة في البحر الأبيض المتوسط .
أحدهم : طاهر بن محمد بن الحسن . وهو يحكم إحدى تلك الجزر المسماة بالزاهرة(1) .
ثانيهم : قاسم بن محمد بن الحسن . هو يحكم الجزيرة المسماة بالرائقة(2) .
ثالثهم : إبراهيم بن صاحب الأمر . وهو يحكم بلدة هناك تسمى بالصافية(3) .
رابعهم : عبد الرحمن بن صاحب الأمر . وهو يحكم بلدة باسم طلوم(4) .
خامسهم : هاشم بن صاحب الأمر . وهو يحكم بلدة باسم عناطيس(5) .
وكلهم يحكمون تحت الإشراف العام لأبيهم صاحب الأمر المهدي (ع) .
وإن لم تدل الرواية على أنهم يرونه ويجتمعون به أولاً .
وحيث أن الحادثة المروية بهذه الرواية مؤرخة بتاريخ القرن السادس الهجري(6) ، فيكون قد مضى على ولادة الإمام المهدي (ع) حوالي الأربعمائة سنة . ولا نحتمل طول عمر أولاده ولا زوجته بالشكل الخارج عن الطبيعي من أعمار الآخرين من الناس . إذن ، فلو صحت الرواية ، يتعين أن يكون قد تم زواجه ووجود أولاده في مثل ذلك العصر . وقد سبق أن ذكرنا أن ذلك إنما يتم فيما لو كان المهدي (ع) قد وجد امرأة موثوقة في أعلى درجات الإخلاص ، بحيث تعرفه وتساعده على إخفاء نفسه حتى على أولاده ، وإن كانت قد لا تخفي عنهم انتسابهم إليه .
أما زواجه في العصور المتقدمة على ذلك ، أو العصور المتأخرة عنه ، أو وجود ذرية له فيها ، فلا تتعرض له الرواية . فيبقى محولاً على متقضى القواعد السابقة .
(1) النجم الثاقب ، ص 220 – 221 . (2) نفس المصدر ، ص 222 . (3) و (4) و (5) المصدر والصفحة .
(6) المصدر ، ص 217 .

صفحة ( 71)
وأما صحة هذه الرواية ، فقد سبقت الإشارة إلى عدم صحتها ، وسيأتي تفصيل ذلك الأمر الآتي :
وأما رواية المازندراني المشابهة لها في المضمون ، فهي مؤرخة في القرن السابع الهجري .. تدل على وجود عدة جزائر في البحر الأبيض أيضاً أكبرها المسماة بـِ (الخضراء) يحكمها نائب خاص عن الإمام المهدي (ع) ، يسمى بمحمد ويلقب بشمس الدين ، وهو من ذرية المهدي ، وبينهما خمسة آباء(1) . لكن لا يتضح انتسابه إلى أي من الأولاد السابقين .
ولعل هناك شي من البعد في تسلسل خمسة أجيال خلال قرن من الزمن ، إلا بتقدير تعدد زواجه أو سرعة تناسل أولاده .
والظاهر من هذه الرواية عدم وجود أولاد المهدي (ع) المباشرين بل من بعدهم أيضاً ، وإلا لما أصبح حفيده الخامس حاكماً هناك ، دونهم . وخاصة وإن الرواية تنص على أن آباءه أفضل منه ، بقرينة عدم مشاهدته للإمام (ع) ، وأما أبوه فقد سمع صوته ولم ير شخصه ، وأما جده فقد رأى شخصه وسمع صوته(2) . وكلما كان الفرد أقرب ارتباطاً بالمهدي (ع) دل ذلك على زيادة في فضله وإخلاصه .
وحساب هذه الرواية ، من حيث أصل صحتها واعتبارها ، موكول إلى الأمر الرابع الآتي .
(1) البحار ، جـ 13 ، ص 146 . (2) المصدر والصفحة السابقة .

صفحة ( 72)
الأمر الرابع :
تأسيس المهدي (ع) في غيبته الكبرى مجتمعاً إسلامياً نموذجياً .. أو عدم صحة ذلك .
يدل على تأسيسه لمثل هذا المجتمع ، الروايتان المشار إليهما فيما سبق للإنبار والمازندراني .. وتنفيه سائر القرائن الأخرى من عقلية ونقلية على ما يأتي .
ونود أن ندرس فيما يلي الخصائص العامة الفكرية والاجتماعية والعلمية والسياسية لهذا المجتمع النموذجي ، وما أنتجته هذه الخصائص فيه من مستوى من الرفاه والازدهار في الزراعة والتجارة .
ولا يخفى أننا بعد أن نناقش في أصل هاتين الروايتين وصحتهما ، فسوف لن تبقى لهذه الخصائص قيمة من وجهة نظر إسلامية موضوعية ، إلا باعتبارها صحيحة في نظر الراوي وبحسب فهمه الخاص . وإنما ندرسها الآن بصفتها ممثلة لوجهة نظر بعض المسلمين تجاه شكل المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية عامة والنظام المهدوي خاصة . وسننطلق بعد ذلك إلى تطبيقه على القواعد والأدلة الإسلامية الحقة .
تتفق الروايتان : على أن هناك مدن كبيرة وكثيرة على ساحل البحر ، ربما كانت في بر إحدى القارات ، وربما كانت في جزائر ضخمة في أحد البحار . وتنص رواية المازندراني على أنه هو البحر الأبيض المتوسط . وإن هذه الجزائر هي السبب في تسميته البحر الأبيض لأنها محاطة ماء أبيض صاف كماء الفرات يختلف لونه عن لون سائر ماء البحر ، إذا وردت فيه سفن الكفار والمحاربين غرقت بقدرة الله تعالى وبركة الإمام المهدي عليه السلام.
وتشكل هذه المجموعة رقعة مهمة من الأرض ، لأن إحدى المدن تبعد عن الأخرى بمقدار مسير إثني عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً ، بحراً أو براً ، بوسائط النقل التي كانت سائدة يومئذ في القرنين السادس والسابع الهجريين .
وهي مسافة تكون بالتقريب مثل ما بين مكة المكرمة والمدينة المنورة في الحجاز أو بين البصرة وبغداد في العراق. وبالرغم من سعة هذه المساحة ، فإنه مليئة بالبساتين والقرى ، التي قد تصل إلى ألف ومائتي قرية لكل مدينة . ومعه يمكن تقدير سكانها بما لا يقل عن عشرة ملايين من البشر . فتكون بذلك دولة متوسطة الحجم ، يمكن أن تشكل المجتمع النموذجي الإسلامي على أحسن طراز .

صفحة ( 73)
وتتصف هذه المجموعة بالجمال الطبيعي والرفاه الاقتصادي إلى حد بعيد ، بحيث تخون اللغة لسان الراوي في وصفه. ويكفينا من ذلك أن أكثر دورها مبنية بالرخام الشفاف ، ويحيط كل مدينة مئات المزارع والبساتين ذات الهواء الطلق والفواكه العديدة .
وتنص رواية الإنباري بأن الذئاب والغنم يعيشون في هذه المزارع بصداقة وألفة . وأن السباع والهوام مطلقو السراح ما بين الناس ، من دون أن يضروا أحداً أو يوجبوا حادثاً أو مرضاً .
وتشتمل المدن على أسواق كثيرة فيها من الأمتعة المعروضة ما لا يوصف ولا يتناهى . وفيها حمامات كثيرة . وفيها مسجد أعظم يجتمع الناس لإقامة الصلاة . وتوجد حول المدينة أسوار وقلاع وأبراج عالية من جهة البحر ، لأجل أن تزداد منعة وقوة .
وأما دين الشعب الساكن في هذه البلاد ، فهو الإسلام على المذهب الإمامي الإثنا عشري .
وأما أخلاقهم الكريمة ، فحدث عنها ولا حرج ، يصفها الإنباري بأنها أحسن أخلاق على وجه الأرض . فهم في الأمانة والتدين والصدق بلا مثيل ، وكلامهم خال من اللغو والغيبة والسفاهة والكذب والنميمة . ويؤدون الحقوق المالية الشرعية . وتسود معاملاتهم روح الثقة وحسن الظن إلى حد يقول البائع للمشتري: زن لنفسك وخذ ، فإن أخذك لحقك غير متوقف على وجودي . وبمجرد أن يعلن المؤذن دخول وقت الصلاة ، يترك الناس أعمالهم ويتوجهون رجالاً ونساءً إلى أدائها .
وتتصف مجتمعات هذه المدن بالتضامن والألفة ، فإذا احتاجت بعض الجزر أو المدن إلى مساعدة ، أو كانت خالية من الزراعة ، أرسلت إليها الميرة والبضائع الكثيرة ، من المدن الأخرى الحافلة بالخير والبركات، تبرعاً دون مقابل.

صفحة ( 74)
ويحكم هذه المجتمعات حاكم واحد ، كما في رواية المازندراني ، أو عدة حكام ، كما في رواية الإنباري ... منصوبين من قبل الإمام المهدي عليه السلام ، بحيث يعتبر أهم حاكم نائباً خاصاً له عليه السلام . ومن ثم فهو يقيم صلاة الجمعة ، لتحقق شرط وجوبها ، وهو وجوبها ، وهو وجود الإمام المعصوم أو نائبه الخاص .
وهو الذي يقيم صلاة الجماعة في كل وقت ، وهو الذي يفتي الناس بالمسائل الشرعية ، ويقضي بينهم . بل تنص رواية المازندراني أنه يدرس العلوم العربية وأصول الدين والفقه الذي تلقاه عن صاحب الأمر المهدي عليه السلام. وهو الذي يجادل عن المذهب إن لزم الأمر ، ويكون جداله حاداً وصريحاً ، ويكون هو الظاهر في الجدال على خصمه على طول الخط . وله من الكرم وحسن الضيافة الشيء الكثير .
وقد سبق أن عرفنا أسماء عدد من حكام تلك البلاد . وقد كان منهم خمسة من أولاد المهدي (ع) نفسه ، في رواية الإنباري ، وواحد من أحفاده في رواية الشيء المازندراني .
يطاع الحاكم هناك من قبل شعبه إطاعة تامة ، وله فيهم الكلمة النهائية ، وله في قلوبهم المهابة والوقار . وقد يخبر بما ينبغي أن يكون جاهلاً به عادة ، كاسم الشخص المسافر الطارئ على البلاد ، فيكون هذا آية صدقه وأساس حكمه . وليس هو اخباراً بالغيب وإنما يرويه عن الإمام المهدي (ع) ولو بالواسطة ، والإمام المهدي (ع) عالم بتعاليم الله عز وجل إياه ، بالإلهام أو نحوه . ومن هنا يقول الرواي : فقلت : ومن أين تعرفني باسمي واسم أبي ؟ قال : أعلم أنه قد تقدم إليّ وصفك وأصلك ومعرفة اسمك وشخصك وهيئتك واسم أبيك رحمه الله(1) . وإنما تقدم ذلك إليه من المهدي عليه السلام .
والمهدي (ع) يسكن في تلك المجتمعات نفسها بنحو منعزل لا يراه حتى الحكام أنفسهم بالرغم مما يتصفون به من إخلاص ووثاقة . وإذا خرج إلى الحج أو إلى أي مكان آخر ، فإن يعود إليها تارةً أخرى .
(1) البحار ، جـ 13 ، ص 140 .

إرسال تعليق

0 تعليقات